أحلام السوق
يسهم الإعلام ومنطق السوق الجديدة، بتغذية مشوهة لغرائز بشرية شديدة الشراهة نحو المال والثراء السريع، ويغرسان في الطريق إلى ذلك قيماً تربوية، تنبذ العمل، والثقة بالنفس، والطموح المدروس، وتعلي من شأن الكسل والتواكل، والأهم من ذلك تبشير الأجيال الجديدة بإمكانية الوصول سريعاً إلى المال والرفاه، دونما جهد أو مقومات!
الإعلام يمتلك أدوات سحرية، تجعل الشاب، أو الفتاة، يتساءل عن معنى العناء في الدراسة والتدريب، ورفع مستوى المهارات، من أجل الحصول على الوظيفة، ما دام بإمكانه أن يربح منزل أحلامه، أو سيارته الفارهة، ومشروعه الخاص بمجرد إرسال رسالة نصية من هاتفه المتحرك، بعدما نجح ذلك الإعلام بفشلٍ تام في إقناع الشاب أو الفتاة أن بمقدوره أن يحولهما نجمين في الغناء إذا توافرت لهما الحظوظ في الوصول إلى أحد برامج تلفزيون الواقع، مع قليل من التعري والنكات السمجة في الاستوديوهات!
والد ذلك الشاب، أو تلك الفتاة، هو الآخر ضحية من نوع آخر لأحلام السوق، والقيم التربوية التي تتشظى لتقوده إلى الإقدام بقوة على إيداع أمواله في أي محفظة وهمية، يملكها مغامر محتال، يقنعه أن بمقدوره الحصول على أموال وفيرة شهرياً، تأخذه إلى ثراء بلمح البصر، عوضاً عن البدء في مشروع تجاري صغير، يكبر به ومعه، ويوفر له ولأسرته متطلبات الحياة الأساسية، وقدراً من الرفاه القادم من العمل والمثابرة، والمتحقق من النجاح والاعتداد بالذات!
المحافظ الوهمية، ومعها الترويج الإعلامي، والبورصات، ابتلعت أحلام فقراء كثيرين، وفتكت بشرائح واسعة من الطبقات المتوسطة، فتحولت معدمة في السباق المحموم نحو الثراء، في حين تعاظمت أموال كبار «الفهلويين» الذين لعبوا بالأسواق، وبضعف الناس تجاه المال والأوهام. كل ذلك يجد من يروجه، ويدافع عنه، بوصفه أسرع طريق بين الفقر والغنى، بين الحاجة والرفاه، بين الواقع والحلم.
لكن النتائج ظلت في أغلب الأحيان تؤكد أن كل ما هو خارج المنطق محض سراب لا ماء فيه، ولا أمل بقطرة منه ضد العطش البشري الذي لا يرويه شيء. القصص كثيرة عن حالات إفلاس، وعن مصابين بالنوبات القلبية، ومرضى نفسيين، ومحبطين، ولكن العبرة تكاد تكون معدومة، ما دام الترويج مستمراً، ولا أحد يتصدى لانعكاساته المؤلمة!
الحكومات، مثل النخب، مثل مؤسسات المجتمع المدني، تتخلى عن أدوارها، ولا تعبأ بالقيم السالبة التي تنتجها الأسواق والإعلام، وهي في الوقت نفسه تقاوم بشراسة قيم الانفتاح الحقيقي والحرية الفكرية، وسائر المفاهيم الإيجابية التي لو أسهمت في بلورتها وترسيخها، لما احتاجت جهوداً كبيرة لإقناع موظف بألا يزج بادخارات أسرته في مجازفات محزنة، تحوله «مغفلاً» وفقاً للقاعدة الشائعة بأن «القانون لا يحمي المغفلين»!
أنتجت السلطات، وبتأييد من المجتمعات وقواها، القوانين والقيم، وعجزت، بل وشجعت، العجز التام عن حماية فئات اجتماعية كثيرة من سوء المنقلب، والخضوع لثقافة الاستهلاك ومبادئها التي تحض على كل شيء من أجل المال، باعتباره الغاية التي تعلو على كل غاية، وقيمة!
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news