قلعة أمّي
|
|
كلما استغورت في قراءاتي في الحقول المعرفية أعود الى أمّية أمّي!!. قيل في الشعر، وقيل في النثر «الأم مدرسة» فاتضح لي بعد أن وهن العظم مني أنها أكثر من مدرسة وأكبر من جامعة وأن كل مشافهة معها تجعلني أكتشف أنها في أسلوب التحليل أقرب الى النفس من كل المحللين النفسيين بمن فيهم فرويد ويونغ ولكان.
للكتب قيمة كبرى بلا شك، ولكن يحتاج المرء دائماً الى مشاعر تشتبك مع مشاعره ونصيحة مخلصة وبريئة تدل أقدامه بعد العماء الى الطريق، خصوصاً أن الفلاسفة والمفكرين ممن لاتزال مدارسهم حاضرة بيننا، قد ارتبطوا بمديونية معنى وعلاقة جنينية مع أمهاتهم لم يفرد لها علماء النفس أي صفحات ذات أهمية كما أفردت الكثير من الصفحات للعلاقة الادوبية المركبة. في صباي كنت استمع الى أمي بشغف وهي تتحدث عن الكون، أحاديث قد تكون بسيطة ولكنها كانت تخلو تماماً من كلمة «ربما» التي يستعملها الفلاسفة كثيراً بين فجوات قراءاتهم الميثافيزيقية لبداية الوجود الى الحد الذي جعلتني أرى ابداعات الخلق في جمال الوردة والمرأة وفي النجوم والأوتاد التي تمسك بالأرض مخافة أن تسقط. كنت صغيراً ولكن العالم كان أصغر مما هو عليه الآن، وحين كبرت واعتقدت أو توهمت توسّع مداركي تمردت على معرفة اللثغة والصبا ورحت الى قراءات شتى مرضت بها ففقدت اهتمامي بالوردة وصارت جل علاقتي مع المرأة تتكسر كل يوم على رتابة من يرفع الفاعل ومن ينصب المفعول. أمي وحدها بقيت مثل القلعة حين تراجعت المدارك والمعارف والنظريات وانهارت الايديولوجيا وتساقطت أعمدة الرموز وكذلك الدول، محافظة على فلسفة التصرف ليس بالنظريات بل بحبها والتضحية بحياتها اذا اقتضى الأمر من أجلي، بينما لم أجد هذه النية متوافرة عندي كما هي موجودة في مبدئها الذي لم يصبح طعاماً للاسماك الثقافية المفترسة. مع أمي تبدو السنوات الراديكالية في حياتي ملأى بالأخطاء ومعها ايضاً يفقد «المثقف فيّ» الكثير من كذب الأهمية حين يدرك مدى اقترابها من بعض المسائل الشائكة بجملة أو اثنتين لا نستعمل فيهما مفردة مثل «في الحقيقة»، لأن لها بعض الحقائق التي لا تجادل فيها وانما تؤكدها لأن باب التوكيد مفتوح على مصراعيه في رأسها الذي كنت اسميه برأس الحناء ذات شيب فإذا به رأس حكمة لا يستهان بقربه من الحقيقة إن لم أقل كبدها. قد يؤخذ هذا الكلام على محمل العاطفة أو المجاملة، ولكن هذا الجانب لن يخفي ابداً أنني افتخر بمكتبة تأكل جزءاً كبيراً من البيت بقدر فخري ايضاً بمكتبة أم لاتزال نظراتها الثاقبة تقرأ كف القلب وحجراته وتصور كل جزء من أجزائي بعين جهاز الأشعة المقطعي ودقتها في تصوير وتشخيص العلة أو المرض zeyad_alanani@yahoo.com |