بريخت ووطار وهافل في مهرجان المسرح الجزائري
من مسرحية «أنسوا هير وسترات».
حبٌّ، وثورة، وحرب، وإرهاب، وجنون، وموت؛ إّما في سبيل الجزائر. هذا ما عملت عليه معظم المسرحيات المشاركة في مسابقة المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر دورة .2008 فأحدثت صدعاً، وربَّما وجعاً عميقاً وواسعاً في النفس لما تملكه هذه الجزائر من مسرح ـ تاريخ وإن كان مغمساً بالأيديولوجياـ لا نعرف عنه الكثير.
بدأ المهرجان بمسرحية «الحوات والقصر» عن رواية للطاهر وطار، من إخراج عز الدين عبار، الذي أشعل قنديل ذكائه ليكشف عن الضوء الزائف والوعي الزائف للحكَّام المستبدِّين، فجمع ما بين الحركة والتمثيل عند «علي الحوات» وهو في رحلته إلى الملك حيث سيهديه السمكة السحرية التي اصطادها تعبيراً عن ولائه بعد فشل محاولة الانقلاب عليه. وكأن المخرج «عبار» يريد ان يؤكِّد أن الطريق بين السلطان، الملك، الرئيس وبين الشعب، معبَّدٌ بالدم، وكلَّما كان الدم المسفوك كثيراً استبد الرئيس بمحكوميه، ودانت ودامت له الدولة، بقي صولجانها فوق رأسه.
المسرحيةُ هذه تقف ضد وحشية السلطان وأركان حكمه، ضد إراقة الدم، دم من يفكِّر، ودم من يعترض ـ علي الحوات المعارضُ المتهكِّمُ الطيِّب الساخرُ الذي يتملا اغتياله، تتم تصفيته عند بوابة القصر هو ضحية من خانوه، ضحية من خرجوا عليه. عز الدين عبار بخيط هادي، يسرد، يتحرك، يذهبُ إلى المناطق الصلبة، ويمسك بالنوى.
بعكس ما فعله «علاوة حسان» في مسرحية «الخردة» التي هي من تأليفه وإخراجه حيث ذبحنا الملل مع حوار لا حركة مأساوية فيه بين عثمان الأعمى، وشعبان الحشاش السكِّير، والشيخ رمضان الذي رمى به ابنه في الشارع. حيث يعيد إلينا الاعتبار المخرج أحمد خودي في مسرحيته «التقرير» عن نص لليوغسلافي «فاكلاف هافل» رئيس تشيكوسلوفاكيا الأسبق. فنعيش مع صراعات وحروب بين الأطراف الحاكمة في المؤسسة المؤسسات الرسمية، ما يكشف عن الخراب والفساد الذي يدمِّر بنية المجتمع، وبتمثيل تهكلامي يستبدل اللغة القومية بلغة جديدة «الطرطورية» التي تُسرطن الحاضر والمستقبل. أحمد خودي في التقرير فرجانا مضموناً ساخراً لروحه وهي تهزأ من التضاد حيث الفساد والادعاء الكاذب، فنضحك ضحكتنا السوداء، من المسؤولين المماحكين الثرثارين المتبجحين فاقدي وطنيتهم.
بخلاف هؤلاء الحيتان وعن نص «هاوشج كيام فان» وبتمثيل كل من حمودة البشير ومسوسة نوال، يطرح المخرج «يحيى بن عمار» مشكلة اغتراب الإنسان، وفوقها عملية غسل الدماغ التي يتعرَّض لها من قوة باطشة تنفرد بحكم العالم، في حوارٍ وإن كان ميكانيكياً بين فتاة تنتظر القطار الأخير وهي الآن في عام 1850، وبين شاب يقف في نفس المحطة؛ لكنَّه يكاد يجِّن وهو لا يصدق ادعاء الفتاة لأنَّه الآن في عام .1993 يحيى بن عمار روى حكايةً ولم يولِّد صراعاً، ربما حرَّك الأعصاب والدم فينا؛ إنما لم يدفعنا إلى الغضب.
هذا الغضب الذي مسك بعض خيوطه حيدر بن حسين في مسرحية «انسوا هير وسترات» لغريغوري غورين التي أخرجها ـ نقلها حرفياً إلى المنصة، والتي تروي حكاية هيروسترات التاجر الذي خسر أمواله في لعبة صراع الديكة، فما كان منه إلا أن أحرق معبد ارتميدا المقدس سنة 356 ق.م بمدينة إيفيس اليونانية، فيُسجن استعداداً لإعدامه، غير أنه وبدهائه، وحتى لا ينساه التاريخ، يبيع مذكراته التي يروي فيها قصة إحراقه للمعبد إلى عمه والد زوجته المطلَّقة الطماع كريسب، ويغوي زوجة الأمير فيوقعها في حبه سعياً نحو الخلود، خلود الذاكرة وإن تم اغتيالها.
حيدر بن حسين طمسَ الدلالةَ السياسية بالدلالة الجمالية، لقد كان عليه أن يرينا الشر وقد تدثَّرَ بالسملاو فيصير قوة. قوة كان على المخرج شوقي بوزيد أن يستفيد منها في إخراجه لمسرحية «فوضى الأبواب» عن نص أحمد رزاق التي غلب عليها السرد الحكائي الإنشائي وإن جاء في حوار. فكلانا مع تمثيلية حوارية ربما تصلح لمسلسل تلفزيوني وليس مسرحية.
مسرح لكنه لبرتولد بريخت، ومسرحيته «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» إعداد وإخراج قادة بن سميشة، ومن تمثيل حسين بن سميشة وقادة بن سميشة، عن يوميات إقطاعي «بونتيلا»، إذ هو وحش مفترس في حالة الصحو، وحمل وديع في حالة السكر. «إيفا» ابنته الوحيدة وفي حالة الصحو يريد أن يزوجها لثري يشتغل بالسياسة- دبلوماسياً؛ طمعاً في المال والشهرة. لكنه حين يسكرُ يحاولُ ان يزوجها من تابعه؛ أجيره خادمه «ماتي»، حيث يتلمس فيه النبالة والفروسية.
ليس من صراع طبقي في المسرحية، لكنه تقسيم ضروري ليشتعل الصراع بين قوتين؛ شريرة وخيرة، مسالمة ومحاربة، جميلة وقبيحة. المخرج سميشة بن قادة لم يذهب إلى الأسلوب الملحمي، حيث يبقى يوهمنا بتلك المسافة ما بينه وبينناـ فلا يلبس المسرحية ويتوحد بها وهذا ما فعله. إذ ثمة مسافة بين الممثل وشخصيته، وبين المتفرج والممثل كي تبقى الدهشةُ، يبقى التباعد. فالتافه؛ الفعلُ التافه، الحركةُ التافهةُ في حياتنا اليومية لم تتحول على الخشبة هنا عند قادة بن سميشة إلى فعلٍ نساء لوركا
بفظاظةٍ ساخرة، وبذكاءٍ فيه مباشرة سياسية، يفضح «جمال حمودة» في مسرحيته «مبني للمجهول» عن نص من تأليف «رـ دي أوبالديا» الحكام الذين يتزينون بالوطنية والشرف، فيما هم يخونون شعوبهم، فتقف دبابة عسكرية في طرف المنصة رمز القوة الباطشة ـ على غلاظتها على المسرح، فيما نرى الملك سعدي وزوجته مسعودة، ومعهما خادمهما مسعود آخر عسكري بقي من الجيش ومن الشعب اللذين هربا إلى خارج حدود المملكة، والذي سيكون هنا المدافع القوي عن الوطن، كي لا يسقط بعد أن سقط الملك مسعود في الخيانة أمام راعي البقر الأميركي.
هذه ـ الواقعية ـ أيضاً لم يُدركها عرض «دعاء الحمام» عن نص لزهور ونيسي وإخراج «لزهور بلباز»، وتمثيل سنية قولا، نسمة هلالي، كريمة سكري، محفوظ بركان، آسيا الحاج، وفي سبع لوحات كوريغرافية مزجت الرقص بالتمثيل، ليضعنا المخرج أمام عرض مدرسي بدا الفعل الدرامي فيه هزيلاً، إذ تبدأ المسرحية باغتيال فتاة من قبل عدو مُفترَض هو الإرهاب، الإرهابي الذي يسفك دماء الأبرياء دون سبب، والذي يستهدف هنا المرأة الجزائرية.
العرض رغم حسن النية من قبل صانعيه إلا إنه لم يثر انفعالاتنا ولا يقظتنا، إحساسنا؛ لأنه فاقد لنكهة العقل الجدلية بسبب من سذاجة الحكاية ـ هو حكايةٌ يتصارع فيها السلام مع الحرب، فينتصر السلام ويرمي بالأسلاك الشائكة ـ فالطريق صارت آمنة. المخرج كان عليه أن يستعيد ولو في مشهد الختام الوجه الإنساني للإرهابي، فالحياة ليست ملكاً له مادام يستمتع بالقتل، قتل الأبرياء غدراً ـ بالغدر. مثلما افتُتِحَ المهرجان بمسرحية من إخراج عز الدين عبار اختُتِمَ المهرجان أيضاً بمسرحيةٍ من اخراجه؛ مسرحية «فالصو» التي تضع المسرح الجزائري في الحقيقة ـ الواقعة المسرحية ـ إذ تكنِّس كثيراً من التجارب المسرحية العربية بسبب من عمق رؤيتها وقوة إخراجها. فعز الدين عبار فرجانا المخفي، الغائب غير المرئي ـ لكن بشكلٍ وطريقةٍ بدت مرئيةً، فعز الدين عبار بإدراكه صنع فرجة، وباشتهائه قذف بنا في قلب الخشبة.
«فالصو» مصنوعة م انفعالات مأساوية، من حزن وفرح، من رغبة وعشق، ومن إعجاب واحتقار. عز الدين عبار في إخراجه هذا لا يذهب إلى الخطاب النظري ـ ناصر، عبدالقادر جلاب بطل مسرحيته التي أعدها محمد حمداوي عن مسرحية »المنتحر» لنيكولاي أرومان، يعطيه عبار قيمة واقعية فيشتبك مع الزمان والمكان بأحداث درامية، فنرى مأساته وهو يبحث عن عمل بعد أن تخرج في الجامعة فلا يجد من يشغِّله، فينجرف مع التنظيمات الإسلامية المسلحة التي يساومها للعمل معها، فنرى حواره مع نواب، وكلاء الله في الأرض، ولكن بكثير من التعبير البصري، الذي يفصح عن الجانب المأساوي لمأزق جيل لا يعرف ماذا يفعل بحاضره ـ بالزمان والمكان، فناصر يغويه المال لا الأفكار ولا العقائد، فيتحول من مسلم إلى مسيحي ـ دون أن يُقام عليه حدلا المرتد ـ فهؤلاء المبشِّرون يدفعون له أكثر مما دفع المسلمون المتطرفون.
عز الدين عبار أظنه مخرج من عيار ثقيل؛ مخرج ظاهرة. فقد اشتغل مسرحيته بكثير من الفيض والتعاظم الدرامي، ومع ممثلين من مثل عبدالقادر جربو وعبدالله حلاب، اللذين تصديا لدوريهما بوعي وأعصاب جريئة، ففرشوا ظلم الأرض على رحمة السماء، وبكثير من الطيبة والقسوة، والتمرد والمكر، فأوجعونا. فكانت براءتهما على قدِّ الجرالتي ينفذها العقائديون المعقدون من الحكام وأشباه الحكام. عز الدين عبار بعقله الصارم المليء بالانفجارات الساخرة صنع نشيداً مسرحياً عربياً كي نبقى على قيد الحياة.
المهرجان الوطني للمسرح المحترف في الجزائر في دورته 2008، قدم الواقع بشكل مدهش وكأنه يصنع مسرحاً من أساطير ولكن حقيقية. * ينشر بالتزامن مع جريدة «السفير»ـ لبنان |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news