«أنتعل الغبار وأمشي».. سرد شعري يتوق للطمأنينة
|
|
في أحايين كثيرة نحتاج إلى صدى جائزة كبرى تطرف أعيننا كي نلتفت إلى عمل إبداعي ما، كما حدث مع رواية «أنتعل الغبار وأمشي» للكاتبة اللبنانية مي منسّي، والتي وصلت إلى القائمة النهائية ضمن الأعمال المرشحة لجائزة بوكر العربية.
«أنتعل الغبار» نص سردي صيغ بحرفية عالية، إذ استطاعت كاتبته أن تنحت كل جملة بشعرية فائقة، وأن تنسج فضاءً مخملياً ـ رغم سوداويته ـ من بعض المآسي التي سافرت عبر عوالمها البطلة، وتحدثت عن الهمّ الإنساني، محاولة لملمة بعض مآسي العالم في خيط درامي واحد، فمن لبنان وتداعي الأكلة عليه، إلى ضحايا الثورات في كمبوديا، مروراً بالحروب المشتعلة في الصومال والجوعى في مجاهل إفريقيا، وصولاً إلى الاحتلال في العراق.
عن الحكاية البداية من الحرب في لبنان، حيث المستضعفون يبحثون عن قمر في سماء مدينة طردت نجومها وأقمارها القنابل، والفتاة ماريا ذات السنوات التسع تتشبث بيد أخيها على مرفأ بيروت بعد أن شهدت ذبح أمها أمام عينيها، يتفرق الأخوان على مركبين مختلفين، تصرخ ماريا آخر صرخاتها مع وداع أخيها سامر ليعقد لسانها عن الكلام يوم أن فارقت أخاها والوطن، يحط بها المطاف في ملجأ تابع لمؤسسة عالمية في فرنسا تُعنى بالأطفال ضحايا الكوارث، وسط نماذج مهشمة لبقايا أطفال من شتى دول العالم التي تنزف بضحايا الكوارث، تطارد ماريا كوابيس غربتها وصمتها المطبق ومشهد قتل الأم، تتعرف إلى مآسي أطفال الميتم، تصادق آماليا الكمبودية التي شهدت هي الأخرى مصرع عائلتها، وكذلك سايد الصومالي الذي يتمنى أن يثأر لأمه وأبيه من عمه، تتعلق ماريا بسايد، وتتحسس عالمها في المنفى، تفرغ حمل همومها في الكتب، تجد في بطلات الروايات نماذج تصبّرها على دراما حياتها، تقرأ بشراهة، وينبت لها لسان جديد هو القلم، لتفرغ همومها في بياض صفحات دفترها الخاص.
يترك مَنْ كانوا أطفالاً الملجأ عندما يصلون إلى الثامنة عشرة، تعمل ماريا صحافية، وتذهب مراسلة إلى العراق، تلتقي صبية فقدت القدرة على الكلام، ترى فيها ماريا نفسها، وتموت تلك الصبية في تفجير لا يفرّق بين فتاة وعجوز في العراق، تبحث ماريا عن صديق يصغي لصمتها، ولا تجده إلا بين المقابر، تأخذ باقة زهور وتتخير قبراً عشوائياً وتجلس أمام شاهده تشكو صمتاً للجاثية تحت الركام.
ترتحل ماريا تبعاً لمتطلبات عملها، فمن العراق إلى كمبوديا إلى باريس إلى نيجيريا، خلال ذلك يموت سايد الذي صار مصوّراً صحافياً مشهوراً في وطنه، بعد أن صارح ماريا بحبه لها، وتواعدهما على الزواج كتابة، تبحث ماريا عن سبيل للتعويض فتدخل في أتون علاقة علّها تروي الجسد الظامئ، وتُنطق المشاعر الصامتة.
يظهر أبوها فجأة ـ أو بأمر الكاتبة ـ يزلزل كيان ماريا ـ المزلزل أصلاً ـ أكثر، يلمز في ماضي الأم، وعلاقاتها التي دعته إلى هجرهم وهم صغار، تتوزع ماريا بين مشاعر متناقضة.
نهايةً، تذهب ماريا إلى بيروت في مهمة صحافية أيضاً، حيث لبنان على حافة الثورة والمطالبة بـ«استقلاله الكامل»، وتعثر خلال رحلتها، مصادفة، على أخيها سامر، وكما كانت آخر صيحة مع فراقه تعود الصرخة الجديدة مع رجوعه، ونعرف أن سامر كان ضمن الكثيرين في سجون «الاحتلال» من يوم أن كبر وقرر أن يقاوم «المحتلين»، لا يفتأ سامر معها طويلاً إذ يودع الحياة نتيجة العلل التي أصابته بسبب التعذيب في السجن، لتكون حرية الوطن ممهورة بدم الأخ.
بُعد طويل واقتراب قصير يبدو أن هاجس توسيع دائرة الهم الإنساني، وعدم الانكفاء داخل شرنقة الألم المحلي قد طاردا الكاتبة أثناء تخطيطها بناء روايتها، إذ أفردت مساحات ممتدة لأماكن كثيرة انتعلت غبارها إلا غبار وطنها الذي خصصت له أقصر أجزاء الرواية، وساحت البطلة في مآسي أوطان عدة، وتاهت في دروب هموم أراضٍ بعيدة، وابتعدت طويلاً، وحين اقتربت جاء ذلك قصيراً وسريعاً، كأنها أرادت أن تكوي جرح الوطن بملح البعاد عنه، رغم أن الغرق في لبنانيتها كان كفيلاً بتوصيل همّها الذي أرادته.
ومع أن مي منسّي نجحت في تضفير جزء من حسّها الفني النقدي داخل نسيج الرواية، وجعله مركباً من كيمياء الحكاية، إلا أنها استغرقت في تحليل بعض الشخصيات الأدبية التي أثّرت في بطلتها ماريا، والحديث باستفاضة ـ ليس محلها ـ عن بعض القطع الموسيقية والأعمال الفنية واللوحات، وكذا طرح بعض المقولات الكبرى التي ألقيت بشكل مطلق في فراغ حكائي، وسرد إنشائي. وما يلفت جداً المستوى اللغوي الواحد الذي يغلف الرواية، إلا قليلاً، والنفس الشعري الذي تطرب له، ويهدهدك، لكنك تتوق إلى كسر حدته الناعمة في بعض الأحيان، حيث أصرّت الكاتبة على اللغة المتأنقة جداً والرومانسية الفجة التي وصلت إلى أشبه بـ«المنفلوطية» في بعض الصفحات (الرسائل المتبادلة بين ماريا وسايد مثلاً). لكن كل ذلك لا يغيّر من القناعة بأن الرواية أهل للوصول إلى قائمة جائزة بوكر، واستحقاقها القراءة، والحلم مع الكاتبة بخلو دروب البشر من غبار الكوارث، كي لا ننتعل سوى أحذية الطمأنينة، وألا نُضطر إلى المشي رغماً عنا في سكك المنافي. |