صنع الله إبراهيم: متفائل رغم ما يحدثُ


سرقنا منه نصف ساعة.. في ركن منزو في فندق «كراون بلازا» في الحمراء، على هامش ورشة «الحريات الثقافية والإعلامية»، باح الروائي المصري صنع الله ابراهيم بقليل منه. هو الذي خدمته الظروف قبل نشر كل رواية، وأحياناً هرّبتها من مقاصل الرقابة، إلا روايتـه الأولى «تلك الرائحة»، 1966، التي صـودرت بعـد طبعـها وقبل نشرها  ثم أفرج عنها بعد 20 سـنة.

نسأله عن قدرة الكاتب على ممارسة الرقابة الذاتية في ظل القمع الموجود، وهل يمكنه في ظل سقف الحريات المتدني أن يرصد تغيرات المجتمع، والسياسة فيه، والكتابة عنها، لاسيما أنه عمد، منذ الستينات، إلى طرح ظواهر متغيرة ومتقلبة في المجتمع المصري والعالم العربي.

يجيب عن السؤال بجملتين قصيرتين أو ثلاث. ثم يتذكر أنه قد سُئل لتوّه أكثر من 10 أسئلة، وكأننا سرقناها منه خلسة، ويكاد يكون هذا صحيحاً. يبتسم ويحمل جسده الى جلسة أخرى حول.. الحريات.

 

ويقول لا تقدم في مسألة الحريات، ولا تراجع في مسألة الرقابة، أو العكس. المسألة لا تقاس بهذا الشكل. هناك نوع من الكرّ والفرِّ بين كل طالب للحرية وكل سلطة رقيبة. هناك صدام مستمر بين فريقين، أول يشكل السلطة وآخر يضم صاحب الرأي، من كاتب، أو صحافي أو روائي.. من دون أن يستطيع الكاتب أو الروائي أن يتغلب على السلطة، أو ينهي مسألة الكر والفر. هذا أمر صعب جداً.  لم يطلق سراح «تلك الرائحة» إلا بعد 20 عاماً.
 
كيف يعود الكاتب إلى تلقّف روايته بعد كل هذه المدة؟ هل يعيد كتابتها أو يعدلها؟ وهل يحتاج إلى ذلك أصلاً؟

  هذا أمر صعب. لا يمكن لكاتب أو روائي، بعد الانتظار كل هذه السنوات أن يمس رواية صودرت بسبب مقصل الرقابة. عندما عادت رواية «تلك الرائحة» الى النور، نُشرت فوراً كما هي. من دون أي نية لتعديلها أو إعادة كتابتها أو تحديثها.

 

  هل أصبحت بعد هذه التجربة الرقيب الذاتي لصنع الله إبراهيم؟

 ه الاجابة عن هذا السؤال مسألة معقدة، فالرقابة الذاتية تعتمد على ظروف معينة، ولا يمكن تحديد ذلك سلفاً أو تعميمه. الظروف هي التي تحدد كيف أكون رقيباً ذاتياً على نفسي. قد يضطر الكاتب أحياناً الى فرض درجة معينة من الرقابة. وفي أحيان أخرى يرضخ إلى رقابة ذاتية شاملة. أما الخيار الثالث فيكون التوقف عن الكتابة تماماً، مثلاً. في المقابل يلجأ بعض الكتّاب الى اعتماد الرموز في الرواية، أو خلق مكان افتراضي غريب وعالم سحري ليكتبوا فيه ما يريدون.

 

   وصنع الله إبراهيم يرضخ أيضاً للظروف؟

 لا، ليس كثيراً؛ لأن حظي كان جيداً. فمعظم ما نشرتُ، صودف أنه نشر في أوقات تميزت بضعف الرقابة. وأعطيكِ في ذلك مثلاً: صدرت إحدى رواياتي، التي تهكمت على رئيس الجمهورية، عندما كان الرئيس منتخباً حديثاً، ويهتم لصيته ومظهره، ويروج لنفسه كرجل دولة ديمقراطي. ولم يجد مساعدوه في هذه الرواية ما يمكن أن يُخلق منه ضجة صحافية، واعتبروا أني سأصدر عدداً من النسخ، و«رواية وتعدّي.. وعدّت»، وخدمتني الصدفة.

 

  عندما لا تؤاتيك الصدف وترغمك الظروف، هل يمكن أن تهرب الى الكتابة باللغة الإنجليزية أو الألمانية؟

 ع الكتابة بلغة معينة مثل جلدنا، لا يمكن ان نغيره. لا أعرف الكتابة بغير العربية، حتى لو كان هذا في سبيل المزيد من الحرية في رواياتي.

 

  هل أفرغت في رواياتك كل مخزون عذاب السجن الذي دخلته بين 1959 و1964 في سياق حملة شنّها جمال عبدالناصر على اليسار، أم أنك تترك شيئاً لسيرة ذاتية تفصلها عن روايتك تماماً؟ وهل يتشابه السجناء السياسيون في الدول العربية عموماً؟ هل تتشابه أنت مثلاً مع رواية «الآن هنا» لعبدالرحمن منيف؟

 هبالنسبة إلى الجزء الثاني من السؤال، أجد أنه من الممكن أن تتشابه الروايات التي تكتب في السجون. لكن تبقى لكل منها خصوصيتها، وعبدالرحمن منيف كاتب عظيم. أما في ما يتعلق بالسيرة الذاتية، فلماذا أكتب سيرة ذاتية وأنا أستطيع أن «أورط» نفسي في رواية، أعكس فيها أفكاري وآراء مختلفة؟ أفضل أن أكتب رواية تجمع عناصر متعددة على أن أكتب سيرة ذاتية تتحدث عني!

 

الجنس والدين

 لكنك تشبه العديد من شخصيات رواياتك: رمزي سليمان في «شرف»، وبطل «اللجنة»، ورشدي في «وردة».. كأنك تترك الكثير من نفسك في معظم رواياتك بطريقة أو بأخرى..

 ل نعم أنا أشبه الكثير من شخصياتي، الى درجة معينة. لابد أن جزءاً مني موجود في الرواية ويكون جزءاً منها. هكذا أترك بعضاً مني في رواية أنسجها، بدل السيرة الذاتية.

 

  هل لديك لائحة طويلة بالمواضيع التي تتعب صنع الله إبراهيم أيضاً؟

 هما يتعبني ويعذبني يصاغ في السؤال التالي: الى أي مدى أنا قادر على التعبير عن المواضيع التي تهمني؟ الجنس واحد منها والدين كذلك. لغاية اللحظة، لم أكتب عن الجنس بالشكل الذي كنت أتمناه، أو موضوع الدين. هذان موضوعان يتعبني التطرق اليهما.

 

هل تعذبك الكتابة عن الجنس وعن الحب؟

 طبعاً.

 

  ألهذا لم يكتب صنع الله إبراهيم رواية حب «خالصة» من دون خلفيات سياسية أو أيديولوجية؟

 المرأة موجودة في كل رواياتي، في «وردة»، و«اللجنة»، وفي «التلصص». غالباً هناك قصة حب في روايتي. لكن ربما، في المستقبل القريب، أفكر بكتابة رواية حب فقط.

 

رفضُ الجائزة

يؤمن البعض بأن أسلوبك ميكانيكي، آلي، وصف خارجي، لا خيال، لا يدخل العمق النفسي.. ورغم هذا، يُعجب كثيرون منهم برواية «التلصص»، برغم برودة أسلوبها وصرامته.. فهل في هذه الرواية حنان وتلصص على العودة الى الطفولة؟

 كل رواية من رواياتي تختلف عن الأخرى، من حيث الأسلوب والخصوصية. أما بالنسبة إلى أسلوبي، فهذا حكم النقاد، ومن حقهم أن يقولوا رأيهم، لكني لا أدافع عن نفسي ولا عن أسلوبي أو روايتي.

 

  قلت إنهم اختاروك لجائزة الرواية العربية 2003، التي تبلغ قيمتها 100 ألف جنيه مصري، «ليكسبوك في صفهم»، وأنت رفضتها. هل حققت موقفاً شخصياً برفضك الجائزة، أم أنك استطعت التأثير في موقف عام يتضمن وضع المثقفين في مصر وعلاقتهم بالسلطة؟

رفضي للجائزة كان موقفاً شخصياً، لكنه تحول لاحقاً الى موقف عام. والدليل على ذلك الاجتماعات التي عقدت في هذا الاطار، والمناسبات التي نظمها مؤيدون لموقفي، بينهم اتحاد الكُتاب. شُكرت على هذه الخطوة، ودعيت الى مناطق ومحافظات مختلفة في مصر، من أسوان الى الاسكندرية. أضيفي الى ذلك العدد الكبير من الرسائل الالكترونية والمكتوبة الداعمة التي تلقيتها، والتعليقات التي كتبت في الصحف، والاتصالات الهاتفية.

 

  وكيف تلقيت ردة الفعل المنتقدة لرفضك الجائزة، من زملاء ومثقفين تربطهم علاقات جدّ وثيقة بالسلطة؟

 طبعاً كان هذا أمراً متوقعاً.. لم أُبدِ أي اهتمام به أو بأي مما قالوه.. لكن المفاجئ بالنسبة إليّ كان الكم الهائل من المواقف المشجعة والداعمة لرفضي الجائزة. لم أكن أتوقع صدور كل هذه المواقف. فوجئت بوجود حالة تأييد «رهيبة» جداً من المثقفين. واللافت أن الكثير من هؤلاء تُعرف عنهم علاقتهم القوية بالسلطة.

 

  كم نسبة مَنْ أيدوا مقارنة بمن انتقدوا؟

 ليسوا الأكثرية، لكن الفكرة في وجود رموز، من بين المؤيدين، عملت وتعمل في الهيئات الحكومية، وهناك شباب خارج النظام.. لا كتلة واحدة تجمع المثقفين المؤيدين للحكومة.

 

  وهل حققت موقفاً شخصياً أم موقفاً عاماً؟ عذراً على السؤال، لكن هل يحقق الرفض دعماً معنوياً يغني عن ذلك المادي؟

 هذا يعتمد على خصوصية كل حالة، ويرتبط بالظروف التي تحيط بكل شخص.

 

  ماذا عن حالة صنع الله إبراهيم؟

 إن كان صنع الله ابراهيم أباً لأطفال صغار، أتكبد عليهم مصاريف المعيشة والتعليم والصحة، لكنتُ ترددت في رفض الجائزة، وكنت خضعت إجبارياً لكل هذه الظروف، بدل أن أقدم على موقف سياسي وأعلن رأياً شخصياً. وأكرر، هذا يعود إلى مسألة وجود أطفال، فقط لا غير. لكن لحسن حظي أنه لا أطفال صغاراً لدي. وأشدد على هذه المسألة التي لا تعتبر تفصيلاً صغيراً. في نهاية الأمر أنا أعتبر أني حققت ربحاً معنوياً، يساوي، أضعافاً مضاعفة، قيمة الجائزة.

  هل تحاول الحكومات اليوم أن تغير استراتيجياتها في القمع، وكسب المثقف الى صفها عبر جوائز ومكافآت مالية، لتجعله أسير السجن الكبير الذي تتحدث عنه في الكثير من رواياتك؟

 ه لا شك في ذلك. لا شك في أن الجوائز واحدة من استراتيجيات الحكومات لكسب المثقفين في صفها. لاحظي أن الجوائز تعددت وتنوعت، وارتفعت قيمتها المادية بشكل كبير جداً. والمانحون يكونون، بمعظمهم، من أجهزة السلطة أو الحكومات، أو من فريق معين هو جزء من السلطة بطريقة أو بأخرى.

 

 لكننا في .2008 كم من الوقت يلزمنا بعد لنراكم؟ وكم من الانتظار علينا أن نرتكب؟

 

 لا بأس بمزيد من الانتظار. لا بأس بمزيد من التريث. لا بأس بمزيد من الصبر. لا يسعني أن أحدد كم من الوقت سننتظر بعد، أو كم من الوقت نحتاج لنرى اختلافاً في المشهد على الساحة العربية. قد تحصل ثورة ما، ثورة نفسية للشعوب، أو صدمة على صعيد العالم العربي كله. الأهم ألا ننسى أن الأنظمة في العالم العربي كله في حالة أزمة. الأزمة هذه لابد أن تُحلّ. والحل المنطقي يقول إن التغيير سيكون على حساب الأنظمة العربية. أما في ما يتعلق بآلية التغيير، فذلك يعتمد على خصوصية كل بلد ونسيج كل مجتمع. قد لا تنجح بلدان معينة في إحداث أي تقدم إلا بعد انقلابات. وأنظمة أخرى قد تزيحها الانتخابات. وفي حالة ثالثة قد نشهد تدخلات دولية، وصراعات بين القوى المتقابلة في العالم (أميركا ـ ايران).


ذات الأسئلة

كاتب «اللجنة»، و«ذات»، والرواية الأجمل «التلصص » ـ 2007، التي تسلل فيها من ثقب صغير الى طفولته، و«العمامة والقبعة» ـ .2008

 

صنع الله إبراهيم الذي طرح على نفسه، بعد خروجه من السجن، أسئلة عدة: «ماذا أكتب وكيف أكتب؟»، و«لماذا يتعين علينا ألا نتحدث إلا عن جمال الزهور وروعة عبقها بينما «الخراء» يملأ الشوارع، ومياه الصرف الملوثة تغطي الأرض والجميع يشمّون الرائحة النتنة ويشكون منها؟».

 

لم يتغير إبراهيم في «استراتيجيته». مازالت الوثيقة والمادة الأرشيفية أساسي أعماله الأدبية، ومازال يعيش بين قصاصات الصحف وأخبارها، مكرساً جدلاً حول أسلوبه التوثيقي الذي يرى البعض انه يفتقد الى الخيال أو الشاعرية.

 

 

 * ينشر بالتزامن مع جريدة «السفير» ـ لبنان 
تويتر