الحوار البدني


في الوقت الذي يذهب فيه الغرب المتحضر في علومه الاجتماعية الى اجتراح فقهياته الجديدة فيما يخص الجسد الانساني، والبحث عن معنى الحركات التي يبديها جسده، خلال حواره المعقلن مع الاخر، وتفسير حركات الجسد الايمائية ودلالات هذه الايماءات،فإن الشخصية العربية وللأسف الشديد، لم ترتق بهذا الجسد الى مستوى الايماء الذي يمكن ان يشكله الحوار المعقلن.فالشخصية العربية ما زالت تعتمد وبشكل أساس على ما يمكن تسميته بالحوار البدني وقودا أساسيا للحوار ذاته؛ بمعنى أن هذه الشحصية ما زالت وبرغم تفشي تحضرها العمراني والاستهلاكي، تعتمد القوى البدنية رصيدا يمكن الاستفادة منه بالعراك وتحطيم الاجساد، وإسالة الدم منها، وتهشيم ملامح صاحبها.

وقبل أيام كنت اجلس في احد مقاهي «عمّان» بانتظار احد الاصدقاء، وكان عليّ في فراغ الانتظار هذا أن اتورط في مراقبة ثلاثة رجال كانوا يتحاورون، ولعل اكثر ما لفت انتباهي في حوارهم، ليست تلك النميمية العدوانية تجاه صديقهم الرابع الغائب. بل حركات الأيدي التي كانت تجرّح فضاء المكان بعدوانية جسدية واضحة. وقد كنت أراقب أحدهم وهو يمد يده الطويلة بشكل أفقي ومن ثم يرتد بها، صافعا وبعنف ايقاعي شديد جهة رقبته اليمنى، كي يقول متوعدا بعبارة«على رقبتي». وقد ادهشتني الحركات المتتالية التي كانت تنم عن توعد بالذهاب بالحوار الذهني نحو الحوار البدني، كأن يمدّ احدهم سبابته الى عين محاوره الى درجة تشك انه سيقتلعها، او أن يباغت أحدهم الحوار القائم بصفع سطح الطاولة بشدة.

والغريب أني وحينما التفت الى الجالسين في المقهى وجدتهم جميعا يعتمدون القوى البدنية في التعبير عن أفكارهم. وأن هذا الاعتماد يمكن استغلاله رصيدا مباغتا، لتتويج مشروع الحوار الأعرج بالصفع والضرب وربما استدعاء الشرطة. ما أدهشني لاحقا بعد هذه الحادثة التأملية للحوار البدني في المقهى، هو اكتشافي أن هذه المسألة هي ظاهرة عربية متفشية بامتياز، وأننا مازلنا نعتمد القوى البدنية رصيدا ثمينا يمكن انهاضه في معظم حواراتنا وفي معظم اشكال تواصلنا الاجتماعي، ابتداء بالمشاجرة التي تبدأ بـ«جحرة»، وانتهاء بمعظم المشاجرات التي تحدث في الاسواق والشوارع والجامعات والمستشفيات والانتخابات، وحتى في ذاك التوعد البدني المكبوت الذي تبديه اجسادنا  في«جاهات» الصلح العشائري. إنّ الجسد العربي الذي لم تثقف مساماته باتجاه الاستجابة للايقاع والموسيقى والرقص، ظلّ يُعاني من اختباءاته اللحمية داخل الملابس السميكة، التي خلقت سياجها الخاص الذي يلجم الجسد، ويعيق امكانية أي حالة انعتاق لهذا الجسد بالرياضة البدنية، أو بالرقص.فالحضارة التي سعت الى تثقيف الجسد في وقت مبكر من التاريخ. استطاعت أن تنجز راقصا مثل«نجسنكي» النمساوي الذي كان حينما يرقص، يشعر بأن قوى الخلق تشتعل في رأسه. أو تدفع باليوناني كازنتزاكس بكتابة رائعته«زروبا»التي جسد فيها رقصة زوربا التي صارت موسيقى ترقص على ايقاعها كل شعوب العالم، حين تحس بالرغبة في اعتاق جسدها من قيده البدني. إنّ قوانا البدنية ما زالت وبرغم كل تحضرنا المديني المفتعل، هي التي تقود الرأس من إبداعاته العقلانية والحوارية، الى أحط المستويات البشرية التي يكون فيها البدن المرجعية الاولى والأخيرة للحوار. وأي حوار؟!  


 khaleilq@yahoo.com 
تويتر