«أنا لست هناك» ولا في أيّ من الشخصيات

كيت بلانشيت «يسار» كما جسدت شخصية بوب ديلان في الفيلم.   «آوت ناو»

 
يقارب فيلم تود هينس «ام نت ذير» (أنا لست هناك) شخصية الموسيقي والمغني الأميركي بوب ديلان عبر سبع شخصيات في عملية فصل حازمة بين أطوار التغيرات التي طرأت على شخصية ديلان نفسه، وبكلمات أخرى التناقضات التي حملها هذا الشاعر والموسيقي، والصراعات التي كانت تعتمل في داخله من أفكار ومناهج ورؤى، فحسب تعبير الناقد الأميركي روبيرت ايبر، فإن تقديم ديلان بشخصية واحدة ستضع المشاهد أمام شخصية تعاني من فصام حاد، تجعل التغيرات التي يمر بها على شيء من الجذرية.

يأتي فيلم هينس بعد أفلام وثائقية كثيرة تناولت حياة ديلان، ولعل أشهرها فيلم «دونت لوك باك» (لا تنظر إلى الــوراء) لـ «دي بنيبيكر» عام 1967 أي في فترة الستينات التي كان ديلان في خضم أحداثها، وواحداً من أيقونات هذه المرحلة، إضافة لفيلم مارتن سكوسيزي الأخير «نو ديركشن هوم» (وطن بلا جهات)، وليكون هذان الفيلمان على شيء من مقاربة العالم الموسيقي لأسطورة ديلان.
ينتصر الشعر والموسيقى في أي فيلم عن ديلان، ولعل هذا حال فيلم «أنا لست هناك» أيضاً، حيث أغنيات ديلان التي ترافق الفيلم من أوله إلى آخره، هي الرابط الوحيد بين الشخصيات التي تتقاسم شخصية ديلان، فهو الفتى الزنجي الذي  اسمه ماركوس (كارل فرانكلين) يعزف البلوز ويتمنطق بحكمة تتخطى بكثير عمره، ولنكتشف في النهاية أنه هارب من إصلاحية، والشخصية الثانية يكون فيها ديلان مغنياً ريفياً اسمه جاك (كريستيان بيل) مسكوناً بمآزق وجودية وصراعات نفسية عميقة مع كل ما يحيط به من أفكار مسبقة الصنع، الثالث هو روبي (هيث ليدجر في آخر أدواره) النجم الهوليوودي المتزوج والغارق بخياناته الزوجية، ومطاردة وسائل الإعلام له والتدخل في خصوصياته.

الشخصية الرابعة جسدتها كيت بلانشت وهي عن مغنٍ يخون عشاقه بالانتقال من موسيقى «الفولك» إلى «الروك»، بينما جسد الشخصية الخامسة ريتشارد غير حيث  يلعب دور الممثل بين أوائل المهاجرين إلى أميركا، والحياة الرعوية التي هيمنت على تلك المرحلة مع صراعه مع أفكار المهاجرين الطهرانية المتعصبة، وصولاً إلى بوب ديلان نفسه (بن ويشو) في حوار مطول يستغرق كل الفيلم عن مسيرته الفنية وآرائه الإبداعية والحياتية والفلسفية، ولنصل الشخصية السابعة والأخيرة والتي تكون من خلال التحول الذي يعصف بجاك المغني المتمرد (كريستيان بيل مرة أخرى) وعثوره على الخلاص في الكنيسة والدين المسيحي وتحول من مغنٍ ثوري إلى مؤدٍ لأغانٍ تمجد الله وملكوته.

كل تلك الشخصيات تمشي في مسارها الخاص، دون أن يتكبد هينس ربطها، ولعل  العنوان هو المبرر الرئيس الذي وجدته لفصل المسارات بين الشخصيات «أنا لست هناك» كما يقول ديلان في أغنيته المأخوذ عنها عنوان الفيلم، ولأكمل ذلك على شيء من الحقيقة التي يعرفها من أصابه الهوس بفن ديلان، وأقول ديلان ليس هنا ولا في أية شخصية، ديلان بالاستعانة بما أحيطت به حياته وأعماله الإبداعية، سيبقى في تنقّل أبدي بين فكرة وأخرى وشخصية وأخرى. ويمكن الاسترسال في ذلك إلى حد اعتبار أن روعة أغاني ديلان التي لم تفارق الفيلم كانت الرابط بين كل تلك الشخصيات، ففي النهاية يبقى فن وإبداع هذا الفنان هو الأسمى، ولعلها منتوج كل هذا التناقض الذي يعتمل في داخله، فهو من يقول في واحدة من أغانيه «لا بد من طريقة أخرى غير هذه، يقول المهرج للص.. رجال الأعمال شربوا نبيذي، ولا أجد طريقاً للخــلاص»، أو تلك المرأة التي تشــبه فتاة صغيرة في كل ما تقوم به، لكنها تنكسر كامرأة ناضجة، ومئات الأغاني والقصائد التي شكلت مملكة إبداع خاصة به.
 
تويتر