تظل الأنثى المتوارية خلف العديد من النصوص الابداعية والاعمال الفنية، عصيّة على البوح والاعلان. ويظل المبدع يعيش حالة من الارتواء من حالة الايحاء التي خلفتها هذه الأنثى او تلك في روحه، الى الدرجة التي يصعب فيها على المُبدع أن يبوح باسم مُلهمته وسيدة الإيحاء التي استطاعت ان تقدح مخيلته، وأن تؤجّج كل هذه النيران التي تُجمر نصه الابداعي.
إنّ المبدع الذي تطل على عمره الأنثى بكل حضورها المدجّج بالايحاء وملهمة الروح، تبدو كأنها حين تقع في فخ المشاهدة، وتتحول الى قوة موحية للنص، تتخلى عن وجودها الفيزيائي والبيولوجي، وتتحول الى نسمة تعبر روح المبدع لتزلزل كيانه بإعادة تشكيلها، وإعادة انتاجها حبريا.
إن فولبير الذي وحينما انتهى من كتابة روايته الذائعة الصيت «مدام بوفاري» قال مندهشا «يا إلهي لقد كنت انا مدام بوفاري»، لم يعترف عن تلك المرأة التي أيقظت شهوة التعبير عن مكنون أنثى الرواية «إيما». هذه الأنثى التي استطاعت ان تجبّ الأنثى الأصل الموحية الأساس لكتابة الرواية. وفي الإطار ذاته يُمكن التحدث عن المرأة التي استطاعت أن تقيم في روح الكاتب الانجليزي د.ه. لورانس، في روايته الذائعة الصيت «مدام تشارتلي». فهذه المرأة زوجة الرجل المقعد، المُعطّل جنسيا، التي منحت جسدها بشهوانية ذات سمة انتقامية لفتى حديقة قصرها. وقد عاش الكاتب لورانس حياته ولم يتطرق في أي يوم من الأيام للسيدة الواقعية التي قدحت مخياله، وولدت كل هذا الاشتهاء عند امرأته تشارتلي. وحين يتأمل المرء نساء القاص والمسرحي الروسي انطوان تشيخوف، ويتأمل تلك الطبيعة المركّبة لمعظم بطلات قصصه ومسرحياته، لا بد أن يُدهش من ذلك النبع النسوي الذي يطل عليه تشيخوف بعينه اللاقطة،خصوصا قصته «السيدة صاحبة الكلب» تلك المرأة المثيرة بعجرفتها وتقززها، ولم يسبق لتشيخوف أيضا أن اعترف عن أنثى الواقع التي أفرزت نساء قصصه ومسرحياته. أما الرسام ليوناردو دافنشي الذي كلفه أحد تجار فلورنسا وأثريائها رسم وجه زوجته «لويزا» فإنه استطاع أن يسرق وجه تلك المرأة، وتحديدا تلك الابتسامة الغامضة التي حيرت كل من شاهد لوحة «الجوكندا»، ويُبقي تلك المرأة في وحدتها البيولوجية، وأن يرسم أنثاه الى الدرجة التي قال فيها النقاد عن اللوحة، إنها وجه المرأة الخنثى! وربما يكون الكاتب والمسرحي الاميركي الراحل آرثر ميلر وحده من اعترف بأنثاه الموحية والمُلهمة لبعض مسرحياته، وذلك في مذكراته التي نشرت في نييويورك، حيث يعترف بأنه وقع في شراك نجمة الإغراء الاميركية مارلين مونرو ، ولم يُنكر هوسه وانجذابه الجارف نحوها. مؤكدا أن صورة مارلين مونرو ظلت ترافقه كالظل، وبقي طيفها طاغيا على مسرحياته الأخيرة. لكن ما يُمكن الجزم به هو أن أنثى الكتابة المُلهمة والمولّدة للنصوص الابداعية، صاحبة قدح الشرارة الأولى للكتابة، ظلت تقيم هناك في اعماق المبدع، في تلك المنطقة الرمادية، وظلّ المبدع يتستر عليها، ربما خوفا على كتابته من فضيحة الاضافات التي اقترفها وهو يعيد تشكيلها بجوانيته الخاصة، الى الدرجة التي يمكن بها القول إن المُبدع وحين يأخذ الإلهام من أنثاه الكتابية، فإنه يقوم بقتلها كي يُعيد تخليقها من جديد. khaleilq@yahoo.com |