الشاشة الشيطانية
|
|
تفتتح لوته ايسنر كتابها عن تاريخ السينما الألمانية الكلاسيكية بمقطع من «مملكة الألمان المقدسة» للكاتب ليبولد تسيغلر الصادر في العام 1925: «الألماني إنسان شيطاني بحد ذاته، سلوك غامض تجاه واقع تم تكوينه، وتجاه عالم تم تكويره. فما هو شيطاني يستحق أن يدعى، بجدارة، شيطانياً: إنه الهوّة، التي لم تُردم أبداً، كما إنه الحنين الجارف، والعطش الذي لم يُرو أبداً. من هنا يظهر الألماني في عيون شعوب أخرى كإنسان ملاحق ومحاصر من شيطانية مندفعة، لا يمكنها أن ترسو على شاطئ أبداً».
كتبت المؤلفة هذا الكتاب المهم بالفرنسية في العام 1955، بهدف عرض المعاني العامة للفيلم الكلاسيكي الألماني أمام أعين القراء من الأوساط المهتمة بالفيلم في فرنسا، وصدرت ترجمة الكتاب إلى الألمانية في العام .1975
وفي مقدمة الطبعة الألمانية نوّهت الكاتبة بما تعنيه بمصطلح «الشيطانية»، الذي يفهمه القارئ الألماني، كما يرد في استشهاد «تسيغلر»، أي نفس المعنى القديم والمتداول أيضا عند الكاتب الألماني غوته، وهو معنى لم يفهم الشيطانية بشكل سيئ على أية حال!
شكلت السنوات الصعبة في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، مرحلة في منتهى الغرابة، احتاجت فيها عادات الألمان كثيراً من الوقت لكي تستفيق، بصعوبة، من صدمتها وتكتشف انهيار أحلامها الإمبريالية. وقد حاول الراديكاليون الألمان، من خلال حركة ثورية، أن يضعوا أقدامهم على الأرض من جديد، لكن سرعان ما تم خنق الثورة في مهدها.
أثر كل من الاتجاهات الإخراجية الانطباعية لدى ماكس راينهارت، والمدرسة التعبيرية، التي سادت قبل الحرب العالمية الأولى، في فن الفيلم الألماني الذي بدأ يعيش عصراً من الازدهار لم يبلغه مرة أخرى. كانت التعبيرية، وهي ظاهرة مركباتها متشابكة، ومعانيها متعددة بشكل صارخ؛ تسعى منذ سنة 1910 إلى تطوير جميع مبادئ الفن السارية حتى ذلك التاريخ.
واستطاعت بفضل طريقة طرح مطالبها العنيفة، أن تقدم ثورة ثقافية على أقل تقدير. ولم تحاول التعبيرية أن تحاكي عملية الخلق الواقعي، إنما كانت تريد تشكيل صورة العالم بطريقتها الخاصة. يحلل «بيلا بالاغ» مطلب التعبيريين المعتم في كتابه «الإنسان المرئي» على الشكل التالي: «بوسع المرء أسلبة الموضوع ليظهر معالمه المستترة، لكي يستطيع المرء أن ينفذ، بهذه الطريقة، إلى هالته المرئية». لم تتعامل المؤلفة مع الفيلم، كفن منعزل بذاته، إنما حاولت أن تربط الفيلم بزمنه وبعادات الأمة التي وُلِدَ منها. من هنا بحثت في ذلك الإغراء في المبالغة بالتفكير، الذي قاد إلى الإيمان الكارثي بالتعبيرية، خصوصاً أن طبيعة الروح الألمانية كانت تستسلم، عن طيب خاطر، لقوى العتمة والضبابية والسحر والصوفية. وقاد البؤس، والخوف الدائم من الغد المجهول، إلى انبهار الفنانين بالتعبيرية وإلى الانصياع إلى أساليبها قلباً وقالباً.
وتشكلت في أفلامها إمارة من أمراء مرعبين، على شاكلة كاليغاري ونوسفيراتو ومابوزه، وامتدت إلى اغلب «كائنات» الأفلام السينمائية بهذا الشكل أو ذاك!
يكتب هاينه في «المدرسة الرومانسية» في العام 1833: «اتركونا نحن الألمان لكل فظاعات الجنون، ولأحلام الحمى، ولعالم الأشباح. ألمانيا بلد مثمر للساحرات الطاعنات في السن، ولجلود الدببة الميتة، وللغيلان بجميع أجناسها، فقط على الضفة الأخرى للراين تعيش تلك الأشباح». ولعل شخصية «دراكولا» مصاص الدماء، الفيلم الأول 1922، الذي وضع له مخرجه مورناو اسم «نوسفيراتو: سيمفونية الرعب»، هو بحق مواطن شيطان، ابتكره على شكل شبح بقناع مريع، بحيث يبدو مثل وحش مخيف. ومازلنا ونحن نشاهد هذا الفيلم الكلاسيكي اليوم، نشعر كما سبق لبالاغ أن أكد، بنسمة جامدة تأتينا من الآخرة. وحينما يتسنى لنا اليوم أن نقارن «نوسفيراتو» بـ«كاليغاري» سنجد كم يبدو رعب كاليغاري، الذي صنع كل تراث التعبيرية، مصطنعاً وربما يدعو إلى الشفقة!
alzubaidi@surfeu.de |