«شمس صغيرة» تشرق على دمشق
|
|
أسامة ولونا والسيارة التي حملت أحلامهما. أرشيفية( مشهد من الفيلم).
الطفولة أول ما تطاله اليد، وآخر ما يتبقى من صور تدمغ الذاكرة، وللمدينة التي شهدت تلك الطفولة أن تبقى على براءتها، ما دامت العين التي وقعت على مشاهدها وبشرها وحجرها كانت طازجة لم يعلق بها بعد ما يشوّهها.
يصلح ما تقدم لأن يكون بوابة إلى الفيلم الروائي القصير «شمس صغيرة» إخراج السوري الفوز طنجور، في أولى تجاربه التي يطبّق من خلالها وعبر حكاية مسكونة بهواجس طفولية على مدينته دمشق، وليكون الفيلم رصداً مكثفاً لهذه المدينة من خلال عيني الراوي الطفل أسامة (محمد عباس)، وعلاقته مع لونا (أليسار كغدو) البنت الجميلة التي ترسم بالطباشير شمساً صغيرة، وتؤمن بأن كل ما ترسمه يمكن أن يتجسّد فتعيشه. يبدأ الفيلم من عدسة المنظار، ولونا تتفقد ناس دمشق، وهم مشغولون بزمن متوقف، للأعمى أن يكون على كرسيه يدخن، ولأبي زهرة (فايز قزق) أن «يكش» الحمام على سطح بيته، وصولاً إلى أسامة الذي نشاهده يدخن خلسةً في سيارة قديمة مستقرة على سطح أحد البيوت. كل شيء في الفيلم يحاك حول علاقة أسامة بلونا؛ تجلس لونا إلى جانب أسامة في السيارة، ويمضيان كما يروي في أحياء دمشق من دون أن تفارق تلك السيارة (الخردة) سطح البيت، ويقول: «كانت لونا تقول لي دائماً إن لدمشق رائحة الخبز والياسمين، وخاصة بعد ليلة ممطرة». والد لونا (فارس الحلو) كاتب يعيش أزمة مقالاته مع الرقابة، نشاهده يتكلم على الهاتف، مشغولاً عن لونا التي تذكّره بأن اليوم هو عيد ميلادها، وليسألها أن تصوّر له مقالته، الأمر الذي يدفعها هي وأسامة إلى القيام بتصوير نسخ كثيرة ولصقها في كل زاوية أو عمود أو حائط في دمشق، ومن ثمّ ينشب خلاف بين لونا وأسامة، فلونا تقول: «دمشق حلوة» وأسامة يقول: «بشعة»، وهما على سفح جبل قاسيون. تنحلّ عقدة الفيلم بأن يلقى القبض على والد لونا، وبعد أن يقوم أسامة بمعايدتها ببالون أحمر وسؤالها أن ترفع شباك السيارة الذي يكون مكتوباً عليه: «كل عام وأنت بخير». أجد نفسي منساقاً خلف سرد حكاية الفيلم، كما لو أنها استجابة لغواية الطفولة التي حملها «شمس صغيرة» الذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان دمشق السينمائي، ولتكون نهاية الحكاية على قدر من المأساوية، فعندما تعود لونا تجد والدها معتقلاً، وموضوعاً في سيارة أمن، ولتمضي خلفه مجرجرة معها دراجتها المعلق بها بالون أحمر، ولتقع الدراجة ويطير البالون، وحينها يمضي أسامة إلى بيتها الخالي، ليجد هدية والدها، ويفعل ما كانت تفعله لونا متفقداً ناس دمشق بالمنظار قائلاً: «الشام حلوة». بين «الحلاوة والبشاعة» تقع المدن العربية، بين ما كانت عليه وما صارت إليه، بين أن تبقى على إصرارها على الجمال، وقسوة وضريبة هكذا جمال يقف كل شيء ضده، ولونا التي تفارق مدينتها تتركها جميلة كما على أسامة أن يجدها، وإن ضاقت بما كتبه والد لونا، وعشق أبي زهرة لها وحمامه، مدينة تتحوّل فيها رغبة لونا بمساعدة والدها في نشر مقالته إلى كابوس أخذ حياتها. فيلم الفوز طنجور مأخوذ بجماليته المجاورة لمشاهدات الطفولة، والاستعانة بمفردات بصرية تتناغم وبناء فيلمه الدرامي، من دون أن يبتعد عن أحلام والد لونا وأبي زهرة، بحرية الأول في كتابته، والثاني بطيرانه وتحليقه، مع الرهان على جاهزية المتلقي الفطرية للاحتفاء بهكذا حساسية لها أن تلتقي مع أرشيف هائل من أفلام قاربت العالم بالطفولة. |