صورة وحدث.. وأمكنة

باسل رفايعة


الصورة واحدة، والمكان واحد في اليومين الماضيين، لكن الأمكنة متعددة وغريبة وصادمة غالباً في الفضاء العربي المختصر جداً في شاشة مسطحة، وربما سطحية تجلس أمامها، وتشاهد الحدث، بكل ما ينطوي عليه من توقع ومفاجأة. الصورة: خمسة أسرى يتحررون، ورفات شهداء يعودون إلى ترابهم.

 

والمكان لبنان وحدوده وجنوبه وبيروته. والحدث مفتوح على إنجاز تاريخي، ومشاهد تستحث الدموع من مكامن الوجع، والأسئلة من أقاصي الشك واليقين معاً، فقد نجحت الصفقة الجديدة لتبادل الأسرى في هزم إسرائيل مجدداً، وتكريس المقاومة طريقاً وحيدة للتحرر والكرامة الإنسانية.  لكن أمكنة أخرى في الفضاء العربي حذفت تلك الصورة، وهذا الحدث، وذلك المكان.

 

فهذه محطة فضائية لبنانية على مقربة من الضاحية الجنوبية في بيروت تركت مشاهديها يتابعون أحدث خطوط الموضة، خلف خطوط النار، وتلك فضائية استدعت من أرشيفها برنامجاً وثائقياً عن المعالم السياحية في سنغافورة، وثالثة خصصت ساعات البث للأغاني، والمسلسلات المكسيكية والتركية.

 

وليكتمل الغياب المدروس، حرصت أمس، صحيفة عربية دولية، بمهنية تحسد عليها على تلخيص الصورة والحدث والمكان في عنوان عريض على صفحتها الأولى، ربما نشرت مثله في يوليو 2006، يتحدث عن تكاليف صفقة تبادل الأسرى، ويؤكد أنها بلغت أكثر من خمسة مليارات دولار، أي إنها اختارت من الخلفية عنواناً للخبر، وتركت لصحيفة مثل «يديعوت أحرونوت» أو «هآرتس» أن تلقنها درساً في المهنية والاحتراف!

 

لم تستطع فضائيات عربية كثيرة دفع الكلفة السياسية لبثّ الحدث اللبناني، فقررت ببساطة تغييب صورة سمير القنطار وهو يخرج من أسره، ويرفع قبضته عالياً، ويتعهد بالعودة إلى فلسطين بعد ثلاثة عقود من السجن، واختارت أيضاً قتل صورة دلال المغربي المغروسة في الذاكرة العربية منذ عام 1978، حينما كان إيهود باراك يجرها من شعرها، بعدما استشهدت، وقتلت العشرات من جنوده على مشارف تل أبيب.

 

غيّبت تلك الفضائيات ضاحية بيروت الجنوبية، وقد نهضت من بين ركام القصف الإسرائيلي الهمجي قبل عامين، وغيّبت معها لبنان بأكمله، وهو يحضر على أرصفة الشوارع، وعلى أسطح البيوت، وفي أعالي الأشجار!  لكن، ورغم كل هذه الخيبات، وتحت ضوء عميم، كانت صورة لبنان بأسراه المحررين، وفقرائه في الضاحية والجنوب، ورفات شهدائه، ومقاومته ورموزها وتضحياتها. وصورة على الطرف الآخر أشد انكساراً وهزيمة.

 

صورة متوحشة وتنزف في المكان نفسه، وليست بعيدة كثيراً من زمن مرّ قبل عامين، حين أحضرت إسرائيل أطفالها من مدارسهم ليكتبوا رسائل وتحيات دموية على الصواريخ لتسقط على نوم أطفال لبنان في الجنوب وبيروت، في سياق توريث الجريمة من جيل إلى جيل.  الصورة العربية أشد انقساماً في الفضاء. صورة معتمة تتلذذ بتغييب الضوء، والسخرية من مفاعيله. صورة منسوخة عن أصل باهت، ولذلك لا تجرؤ على الاشتباك مع أي أصل حقيقي، ونابض بالحلم والحياة!      baselraf@gmail.com

تويتر