«القوقعة».. جهنم السجن الصحراوي
السجن، التعذيب، القتل، في سجن صحراوي له أن يكون التجسيد المتخطي للجحيم، والمتناغم مع التجسيد الأرضي لجهنم لمن يعتقل ويرمى هناك. تطالعنا رواية «القوقعة» الصادرة أخيرا عن دار الآداب في بيروت، للكاتب السوري مصطفى خليفة ومن دون مقدمات، بتلك العوالم القاحلة والسوداء، من خلال سرد أشبه بمذكرات سجين أمضى أكثر من 12 عاماً في ذلك السجن، والذي لا يمهلنا كثيرا لننتقل معه إلى هناك، فبعد ما يبدأ به الكتاب من توديعه حبيبته سوزان في مطار «أورلي» بباريس، وعودته إلى الوطن، يُلقى القبض عليه في مطار بلده ويعتقل من دون أن يعرف تهمته، ويساق مع المنتمين إلى الإخوان المسلمين رغم أنه مسيحي، وليس كذلك فقط، بل هو ملحد أيضاً، الأمر الذي يكرره مرتين أثناء التعذيب، ما يجعله مصدر قطيعة من كل شركائه في المهجع، عدا استثناءات قليلة، وعليه يكون سجنه مضاعفاً، فينسج حوله قوقعة تجعله يمضي أيامه متلصصاً على السجانين والسجناء معاً.
«يوميات متلصص» هو ما حمله أيضاً الغلاف تحت عنوان الكتاب «القوقعة»، ونمضي مع الرواي وهو يحكي عذاباته إلى جانب عذابات من حوله، وكمية التعذيب الذي لا يتوقف إلى لحظة خروجه من هذا السجن الصحراوي، وملازمة الموت لكل من فيه مع المحاكمات الميدانية كل خميس، وحفلة الإعدامات التي يتمكن الراوي من التلصص عليها من ثقب في الجدار.
كمية ما يصوره الكتاب من وحشية يتعرض لها السجناء فيه من الصدمة ما يجعل القارئ وهو يتتبعه على مر صفحات الكتاب أن لا يتوقف عن القراءة، والتفنن والتنويع به يمنح كل فصل جديداً ليس بالحسبان، فالجرب في هذا السجن كفيل بأن يقتل الانسان، كما أن وقوع السجان على فأر مصدر سعادة كبيرة ما دام سيقوم بإطعامه لأحد السجناء، والأب يمكن له أن يرى أولاده الثلاثة يعدمون، وليس في ذلك إلا أمثلة سريعة، لما حفل به الكتاب من تفاصيل جهنم، وهول ما قدمه الكاتب من معلومات لها أن تطال المصطلحات التي يتداولها السجن، الكيفية التي تتواصل فيها المهاجع عن طريق شيفرة «مورس»، والحفظة الذين يؤرخون بذاكرتهم اسماء الشهداء وتواريخ قتلهم، وغير ذلك، مما يصل بالراوي إلى إطلاق سراحه والجحيم الآخر الذي يواجهه أيضاً.
«القوقعة» صليب كبير على هيئة كتاب، كوابيس من التأقلم مع ما يعجز أي كائن ربما غير الانسان على التأقلم معه، حيث نتعرف إليه أي الانسان والعربي تحديدا وهو يشحذ كل ما في فطرته أو غريزته ليبقى ويخرج حياً، ولعل اكتشاف ما يحتكم عليه المرء في أعماقه له من الدهشة ما يماثل الدهشة من الوحشية التي تستوطن السجان والذي من المفترض أن يكون انسانا. كتاب مصطفى خليفة وثيقة تاريخية لا تعنى بتسمية البلد العربي، مع وضوح ذلك وضوح الشمس، فالكتاب كما يرد في إهداء المؤلف مشغول بتقديم شهادات السجناء كجزء من حقوقهم المنتهكة، وليكون رد الفعل بعد قراءة الكتاب، بأننا في شهادة مغمسة بالدم والدموع، وواقع مستعاد يتخطى أعتى مخيلة إجرامية. |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news