ماريانو فورتيوني.. فنان التفاصيل المبهرة

تصاميم فورتيوني وأفكاره كانت مصدر إلهام لأجيال لاحقة.أرشيفية 

يعد مصمم الأزياء الإسباني ماريانو فورتيوني أحد أكثر مبدعي القرن الـ19 قدرة على الابتكار، وخلق الأفكار الجديدة التي جعلته سابقا لعصره، وملهما لكثير من مصممي الأزياء الذي جاءوا من بعده، وعلى الرغم من ابتكاراته الشهيرة والريادة في عالم تصميم الأزياء، إلا أنه كان فنانا متكاملا عرف بقدراته الإبداعية في مجال الرسم الفني، والتصوير الفوتوغرافي، والإضاءة المسرحية، وربما كانت هذه الابداعات هي التي خلقت شهرته قبل ان يُعرف في مجال تصميم الأزياء، والتي بدأ خطواته الأولى فيها مع ابتكاراته للخامات ورسمها، وتحويلها من خامة اعتيادية الى فساتين مبهرة، خاصة وأن العصر الذي عاش فيه عرف بالميل العام الى الفخامة والتركيز على التفاصيل التي تجعل من ابسط الأشياء عملا فنيا متكاملا.  

 

ولد ماريانو فورتيوني مادرازو عام 1871 في مدينة غراناد الإسبانية، وقضى فترات طويلة من حياته وعمله في إيطاليا، وكانت أجواء طفولته زاخرة بالأجواء الإبداعية التي زرعها فيه والده الرسام المعروف ماريانو فورتيوني إي مارسال الذي كان ايضا مهووسا باقتناء المنسوجات والسجاد الشرقي، والأواني الفخارية النادرة، إضافة الى الأسلحة والعدد المعدنية العتيقة، ولذلك عاش فورتيوني طفولته المبكرة بين اللوحات، التي كانت توحي له بخيلات كثيرة، وقصص كان يعيشها بانيا من كل لوحة قصة وبطولات وفرسان.

 

طفولة يتيمة
لم تكن طفولة فورتيوني الطفل من طفولة والده الذي تيتم رضيعا، حيث توفيت والدته حين كان في الـ12 من العمر، ومن قبلها توفي الأب فورتيوني وكان في العاشرة من العمر، قبل وفاتها قررت  والدته الانتقال بالعائلة إلى باريس حيث بدأ في تلك الفترة فورتيوني الابن بالرسم، متحولا شيئا فشيئا إلى شبيه بوالده، كما كانت باريس بالنسبة إليه المكان الرومانسي الذي استطاع فيه لقاء ملهمته ومحبوبته عام 1897، هينيريت نيغرين.

 

اشتهر فورتيوني بحبه الشديد للسفر، والتعرف إلى الحضارات المختلفة، الأمر الذي ورثه عن والده أيضا، ليرتحل بين الدول الأوروبية باحثا عن تجارب فنية أوروبية ومصرية ويونانية، كما قرّبه هذا الارتحال من موسيقى الملحن الشهير ريتشارد واغنر، الذي اشتهر أيضا بكونه مفكراً وكاتباً.

 

انطلاقة إبداعية
وربما كان الترحال الذي اعتاده فورتيوني الأب قدر العائلة، حيث انتقلت العائلة مرة أخرى إلى مدينة فينيسيا الإيطالية عام 1889، وهو المكان الذي قرر أن يتخذ منه مكانا لانطلاقته الإبداعية، حيث أسس في المدينة مشغله ومختبره الذي حمل اسم «بالاسو بيسارو أورفي» الذي أخرج منه لاحقا إبداعات غاية في الأهمية، ثم  تحول إلى «متحف فورتيوني» تكرست وتجوهرت فيه تجربته الفنية التي لم تتوقف عند قدرته على صنع الفساتين وتصميمها، بل في  مجال الرسم الهندسي والتصميم الداخلي، وتصميم منصات العروض المسرحية، إضافة إلى التصوير الفوتوغرافي، وإضاءة العروض المسرحية، وهو المكان الذي استطاع فيه ابتكار الكثير من التقنيات في حرفة الصبغ والطباعة على الخامات والأنسجة، ولم يتوقف دور نيغرين في باريس فقط. وعرفت بزوجته هينيريت بالرومانسية الشديدة التي يمكن ملاحظتها في أعماله التي حوت الكثير منها صورا لها، سواء في تجاربه في التصميم، أو في الرسم، أو في التصوير الفوتوغرافي.

 
 

ملهمون
اهتم فورتيوني في مطلع القرن الـ20 بأساليب التصميم الجديدة، والأنسجة والخامات التي تم ابتكارها، والطرق الجمالية والفنية ذات الأفكار العملية، التي استوحاها من المصمم البريطاني ويليام موريس، والرسام إي. بيرن جونز، وبنظرياتهم حول الأساليب الحديثة البعيدة عن التقاليد المحافظة المقيدة للحرية، وهي الفترة التي ابتكر خلالها فورتيوني «المنديل نوسوس» وهو المنديل المستخدم من خامة حريرية لامعة ومكبوسة شبيهة بفكرة آلة «الأكورديون» التي حوّلها لاحقا إلى خامة ابتكر منها العديد من التصاميم والفساتين التي اعتبرت سابقة لزمنها بكثير، واستخدمت بألوان سادة، و مزينة برسوم هندسية حديثة.

 

ولم يكن من السهل على فنان متعدد المواهب أن يشغل تركيزه على حرفة واحدة، إلا أن ابتكار الخامات الحريرية وتحويلها إلى قطع فنية من فساتين، كان التحدي الذي رغب في خوضه، مفتتحا متجره الخاص لفساتين السهرة عام 1906، بينما ابتكر بعد ذلك بعام، أحد أكثر ابتكاراته شهرة، وسمي الـ«ديلفوس روب»، المصنوع من الحرير المكبوس الكثير الثنايا الدقيقة، واشتهر بشكل كبير بعد تم ارتداؤه من المسرحيتين الشهيرتين آنذاك إيسادورا دنكان، وسارة برنارد، واعتبر تصميمه هذا ثورية مستوحاة من الفساتين الإغريقية القديمة، وعلى الرغم من تفاصيله اتسم بالبساطة الشديدة في الشكل، والراحة الكبيرة عند ارتدائه، ما يوفر سهولة في الحركة، الأمر الذي اعتبر مختلفا تماما عما كان يعرض أو يلبس في تلك الفترة، حيث كانت الحواشي تزين بالزجاج الفينيسي الملون، والتي تميّزت بشكلها المزخرف.

 

اشتهرت ابتكارات فورتيوني في تصميم الأزياء بكونها كانت مصنوعة يدويا بالكامل، سواء خامات الحرير التي كانت تصبغ ويطبع عليها في مشغله، أو الفساتين الفخمة والمناديل، إضافة إلى قماش المخمل المتعدد الألوان، والفساتين الداخلية المصنوعة من الساتان، والأحزمة، والحبال الحريرية الشبيهة بالضفائر التي كانت تستخدم بديلا عن الأحزمة في بعض التصاميم.

 

إضاءة وديكور
وبما أن ابتكاراته وتجاربه لم تقتصر فقط على عالم تصميم الأزياء، توجّه صانع الخامات المبتكرة، إلى عالم الإضاءة المسرحية الكهربائية مبتكرا المؤثرات الضوئية الشبيهة بالسماء في مختلفة حالاتها، ثم انتقل بعد ذلك إلى تصميم ديكور منصات العروض المسرحية، متعاونا بذلك مع الكاتب الإيطالي الشهير غابريل دينينزيو، بالإضافة إلى تجربته في عالم التصميم الداخلي وإكسسوارات المنزل، من خلال ابتكاره لمجموعة من المصابيح المنزلية التي سميت «مصابيح فورتيوني» وكانت مصممة بطريقة توزع من خلالها الإضاءة الخفيفة، عبر طبقات من الحرير البراق، مثبتة حول شكل حديدي مقوى ليعطي الخامة والمصباح شكله المطلوب، بينما رسمت الحرائر يدويا بخطوط مذهبة، مستوحاة من أشكال وأفكار شرقية، زينت بحبات زجاجية ملونة وحبال من الحرير.

 

واستطاع فورتيوني أن يقدم العديد من الابتكارات التي لا يمكن تحديدها بزمن، من أشهرها الفستان الحريري الدقيق الثنيات، والمناديل المخملية التي لا تزال أنيقة وراقية الى يومنا هذا، ولا تزال الطريقة التي استخدمها فورتيوني لثني الحرير غامضة لغاية اليوم، وسرا لم يتمكن أحد من معرفة تقنيته، بينما تميزت مناديل الرقبة التي بمرونتها الشديدة مع حركة الجسد الأنثوي مصممة لتندمج مع الشكل والتصميم والخامة المستخدمة وحركة الجسد.  
 
 

مصنع 
في عام 1922 افتتح فورتيوني مصنعه في جزيرة غويديكا، وكان المبنى عبارة عن دير قديم أغلقه آنذاك نابليون بونابرت، وقرر فورتيوني افتتاح المصنع في ذلك المكان لحاجته إلى مساحة واسعة لوضع ماكيناته التي ابتكرها لإنتاج خاماته الخاصة به، وليتمكن من تحقيق رؤيته كاملة، أمر فورتيوني بأن يتم بناء المصنع تحت معايير وشروط خاصة حدد تفاصيلها بنفسه، الأمر الذي جعل المصنع مزاراً للسياح، ومصنعاً ينتج حتى اليوم خامات فورتيوني الشهيرة.

 

بصمة
 


توفي ماريانو فورتيوني مادرازو في قصره الفينيسي عام 1949، بينما اعتزل التصميم، وأغلق دار أزيائه قبل ذلك بثلاثة أعوام، ودفن في مقبرة فيرانو في مدينة روما الإيطالية، بينما كانت أعماله مصدر إلهام للكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست على مدى أعوام كثيرة، وصور الكاتب بيري غيمفيريرز حكاية فورتيوني الزاخرة بالتفاصيل والمغامرات من خلال روايته الشهيرة «فورتيوني».
 
 
 
تويتر