«التسوية» حجر الأساس لإنجاح الشراكة المتوسطية
تحقيق التسوية يقتضي أدواراً إقليمية ودولية تتجاوز اتحاد المتوسط. أرشيفية ــ جي تي
على الرغم من الغموض الكبير والتساؤلات التي يثيرها المشروع الفرنسي «الاتحاد من أجل المتوسط»، إلا أن معالمه بدأت تتضح بعد الاجتماع التاريخي الذي جمع زعماء نحو 40 دولة قبل أيام من الاحتفالات السنوية بعيد الثورة الفرنسية الأخيرة.
وكانت القمة التاريخية أشبه ما تكون بالاستعراضية حيث غلب عليها الطابع البروتوكولي، والخطابات النمطية. وفي المقابل يرى محللون أن القمة تعتبر حجر الأساس لبناء اتحاد متوسطي بإمكانه أن يجلب الكثير لسكان المنطقة، وأن يدفع العجلة الاقتصادية في البلدان الأعضاء. وقد ركز الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي منذ انتخابه على الاتحاد المتوسطي وجعله محور سياسته الخارجية، على الرغم من أن الفكرة لا تعتبر جديدة، حيث تم إطلاقها في برشلونة الإسبانية سنة 1995، وتعثرت الجهود بسبب اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين وعودة حزب الليكود إلى الحكم. ويقول مراقبون إن ضم إسرائيل إلى الاتحاد رغم المعارضة العربية، قد يكون وراء كل هذه الجهود. وقد فشلت الشراكة بين شمال المتوسط وجنوبه في العديد من المحاولات الفردية. وتسعى كل دولة أوروبية إلى الانفراد بدول الجنوب وإقامة شراكات تكون في الغالب استغلالاً للموارد الطبيعية وفتح أسواق تلك الدول للمنتجات الأوروبية دون قيود أو شروط. ويتساءل البعض إن كان الاتحاد الذي سيضم عشرات الدول المختلفة السياسات والمصالح ستنجح في حين فشلت اتفاقات ثنائية أو ثلاثية؟
توافق أوروبي يبدو أن الدافع الاقتصادي كان من أهم الأسباب التي دفعت ساركوزي إلى التحرك من أجل تفعيل الشراكة المتوسطية، فقد ذكرت التقارير أن الصادرات الفرنسية إلى دول المغرب العربي قد انخفضت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ. وتقول البيانات الرسمية إن الصادرات إلى المغرب وتونس تراجعت بنسب 7.5% و3%، ولم تتوافر معلومات دقيقة عن التعاملات مع الجزائر، التي تراجعت كذلك بسبب انفتاح هذه الأخيرة على أسواق جديدة، في أوروبا وآسيا.
من جهة أخرى اعترضت ألمانيا بقوة على الطرح الفرنسي إزاء مشروع الاتحاد، ما شكل أبرز التحديات التي واجهته قبل أن يخرج إلى النور. وقد ركّزت هذه الاعتراضات على رفض فكرة الانفراد بالسياسة الأوروبية إزاء دول المتوسط وإخراجها من بوتقة الاتحاد الأوروبي. وبررت برلين موقفها على أساس خطورة هذه الفكرة من المنظور الاستراتيجي على أمن ومصالح الدول الأعضاء في الاتحاد بحكم تشابكها وتداخلها ضمن نظام الـ«شينغن» والسوق المشتركة. وهو ما يظهر بجلاء أكبر من خلال مشكلات الهجرة والطاقة. وساهم الحوار بين المستشارة الألمانية انغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إلى حد كبير في بلورة توافق أوروبي على المشروع خلال قمة بروكسل في مارس الماضي. وبناء على ذلك تم إدماج مشروع الاتحاد المتوسطي ضمن أجندة السياسة المتوسطية للاتحاد الأوروبي. وعلى ضوء ذلك أصبح يُنظر إليه أوروبياً كتطوير لمسار برشلونة. ومن هنا ولدت التسمية الجديدة للمشروع، «الاتحاد من أجل المتوسط».
تشكيك عربي يواجه المشروع المتوسطي العديد من المشكلات، منها النزاعات المسلحة والحدودية التي تعصف بالضفة الجنوبية والشرقية. إضافة إلى غياب التناوب الديمقراطي على السلطة وانتهاك الحريات المتكرر، في الدول العربية، ما يشكل عقبة أمام أعضاء الاتحاد، وتقوض فرص الاندماج. ويبدو أن التغيير السياسي ليس مطروحاً في أجندة الاتحاد، حيث سيكون بمثابة تدخل في شؤون الداخلية للبلدان العربية وتركيا وهذا أمر مرفوض من طرف الأنظمة القائمة هناك.
ويشكل حضور إسرائيل في مؤتمرات الشراكة المتوسطية منذ سنوات عنصر جدل بالنسبة لعدد من الدول العربية، ولم يخل النقاش حول مشروع ساركوزي منذ بدايته من شكوك بعض العواصم العربية كونه يشكل إطاراً لإقامة علاقات بينها وبين إسرائيل. لكن الدبلوماسية الفرنسية نجحت على ما يبدو في تذليل هذه العقبة، وهي «علامة إيجابية» برأي الخبير كوبمان، لاسيما أن الرئيس السوري بشار الأسد شارك في القمة في الوقت الذي يسعى فيه ساركوزي للعب دور وسيط بين العرب والإسرائيليين. بيد أن مجرد لقاء العرب والإسرائيليين في مؤتمر باريس لن يقود إلى نجاح الشراكة المتوسطية، ويتفق الخبيران الألماني والجزائري على اعتبار التسوية السلمية للنزاع العربي الإسرائيلي عاملاً أساسياً في نجاح الشراكة المتوسطية، رغم أن تحقيق التسوية يقتضي أدواراً إقليمية ودولية تتجاوز إتحاد المتوسط.
اختلال التوازن ويرى الخبير الاقتصادي الفرنسي غوييوم دوفال أن الفوارق العظيمة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط وشرقه، ومخططات تحويل المنطقة إلى منطقة تجارة حرة، سوف تشكل أهم نقاط الخلاف. وأوضح ان «إقامة منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي وهذه الدول، يعني فتح جنوب المتوسط وشرقه أمام كبرى الشركات الأوروبية أكثر من الماضي، وأن يزيد من الهجرة الريفية إلى المدن المكتظة بالسكان في البلدان العربية».
وحسب الخبير الفرنسي فإن بعض دول شرق أوروبا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تخشي أن يؤدي هذا الانفتاح إلى تحييد موارد الاتحاد الأوروبي المالية واهتماماته السياسية من منطقتهم إلى حوض البحر المتوسط. أما بالنسبة لدول شرق أوروبا الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وكذلك بالنسبة للدول الاسكندنافية بل وألمانيا ذاتها، فيعتقد دوفال ان «ما يحدث في شرق القارة الأوروبية لا يقل أهمية عن البحر المتوسط».
من جهته يرى المحلل السياسي المتخصص في شؤون المنطقة العربية، رودولف تشميلين، أن الاتحاد من أجل المتوسط «سوف يكون مختل التوازن لصالح أوروبا». وأضاف «في الغالب سيُملي الاتحاد الأوروبي شروطه»، وقال إنه رغم أن الولايات المتحدة لا تجلس على مائدة هذا الاتحاد، إلا أنها سوف تؤثر فيه نظراً لوجودها الجماعي في شبه الجزيرة العربية وإسرائيل.
أما تركيا، فقد يمثل الاتحاد من أجل المتوسط أفضل خيار لها بعد عضوية الاتحاد الأوروبي التي تعترض عليها فرنسا بشدة. وأعلنت الحكومة التركية أنها حصلت على «تنازلات جوهرية» من فرنسا، مقابل مشاركتها في الاتحاد.
خبراء: المشروع سيحدّمن الهجرة غير الشرعية يعتقد الخبير في مؤسسة السياسة الخارجية ببرلين، الدكتور مارتن كوبمان، بأن المشروع صيغة واقعية قابلة للإنجاز من خلال مشروعات اقتصادية ذات طابع عملي. وسيدعم تنفيذها عملية التنمية في بلدان الجنوب بشكل ينعكس إيجابياً على الأمن الأوروبي، مثلاً من خلال الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تؤرق العواصم الأوروبية. غير أن الخبير الاقتصادي ورئيس الحكومة الجزائرية الأسبق الدكتور أحمد بن بيتور، يرى أن المشروعات المعلنة حتى الآن «مجرد ذر للرماد في العيون».
ويقارن بن بيتور مبادرات الاتحاد الأوروبي إزاء شركائه في جنوب المتوسط بما يقدمه الصينيون للمنطقة، قائلاً: «مقابل مشروعات كبيرة الحجم يقدم عليها الصينيون، ظل الأوروبيون أسرى أفكار قديمة تقوم على السعي لكسب المستقبل لصالحهم وجني مكاسب اقتصادية على حساب بلدان الجنوب».
وتكشف ردود الفعل المتعددة من قبل بلدان جنوب المتوسط على مشروع الاتحاد الجديد وجود حسابات وتوقعات متباينة لدى هذه البلدان. |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news