«خمسون».. وجــــــه واحـد لنســــاء بـلا واقــع

 المسرحية قدمت قراءة لـ 50 عاماً على استقلال تونس.
 
لا شيء يلغي شيئا، لن تلغي الحياة الأدب والفن والثقافة، ولن يلغي الأدب والفن والثقافة الحياة، ولن يؤجلها. او يؤجل حدوث وقائعها.
 
لم يتحول الكثير الى متحف التاريخ، لا نزال نتذوق القديم، لا نزال نتذوق تراث الشعر العربي بجاهليته واسلامه وعصوره الأخرى، لا نزال نلتقي فرسانه واعلامه، جنبا الى جنب واكبر شعراء الحداثة. لا يزال المسرح واحدا، اختلفت التجارب، تقدمت، الا أن اسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس لا يزالون بأهمية ابسن وشو وبريشت وبيسكاتور وأداموف وآرابال. والى آخره.

«خمسون» الفاضل  الجعايبي  تزهر على السمات الفارقة باللحظة الحضارية. انها تطرح سؤالا حضاريا بالغ الخطورة: الأصولية جسد واحد، جسد بلا تفاصيل، جسد بلا  روح، جسد بقلب قاس. اذا، جسد بلا مشاعر. ذلك انه اقرب الى «الكليشيه» المتداول عن الإسلامي في  الغرب، وخصوصا حين يعزل الإسلام الإسلامي عن بنيته الحقيقية. 
 
احتفل المسرح بالمسرحية التي عرضت أخيرا في بيروت، لأنها اقتصرت على تسجيل وتبجيل بعض الاحاسيس الخاصة. واتبعت فن تأويل الواقع. ذلك ان قراءة 50 عاما على استقلال تونس، لن تفضي الى فرد سجادة محلية نسجها الأصوليون وحدهم. لست ادافع عن انظمة الحكم المتعاقبة بتونس. ولكنها انظمة قدمت وحمت.  

 قدمت حرية المرأة وحمتها. نساء تونس الآن بين اقصى التزمت وأقصى الحداثة. وتنتمي جليلة بكار زوجة الجعايبي الى الفئة الثانية. انها اكثر رحابة وعمقا من ما يشي به نصها. ثم انني لا ازال دهشا من التنميط السائد في المسرحية. لا ازال دهشا من قوة السرد ،  وهي قوة في مقابل قوة الإيحاء المعروفة عن مسرح فاميليا وتجارب الفاضل الجعايبي ورفاقه منذ بداية «المسرح الجديد».سواء في «غسالة النوادر» او «التحقيق» و«عرب» مرورا بـ«عشاق المقهى المهجور» وصولا الى هذه المسرحية. 

صحيح ان خسارة العلمانيين لمشروعاتهم  في العالم العربي عززت اندفاع الكثيرين الى التعلق بحبال الهواء، والصحيح أيضا ان غياب اليسار العلماني ـ الذي يرثيه الفاضل الجعايبي وجليلة بكّار ـ هو نتاج سقوط صيغة في  التعبير الجدلي الموفق بين عالمين. عالم الشيوعية والاشتراكية.
 
وعالم الرأسمالية والرأسمالية المتوحشة في ما بعد. سقوط الثنائية في  صالح الآحادية، هو سقوط عالم المقرنصات  بالعالم، أي عالم التشكيل الهندسي الثلاثي الأبعاد، الشيوعية والرأسمالية وما بينهما من افرازات هوامش الصراع البارد المتفجر بين المعسكرين. ومن  هنا فإن مسرحية «خمسون» هي بيان الفاضل الجعايبي وجليلة بكـّار ولكن من دون حداثة  التي عرفناها في «عشاق المقهى المهجور»، وأحسب أن اقتراب «عشاق المقهى المهجور» من القضية هذه اعمق بكثير، لأنها طرحت الموضوع الجزائري، وهو موضوع حار بارتباطه بالبنية التونسية، اصولية مغاربية، وهي اصولية وجدت في اقتران التجربة بأصولية المثقف ذاته، «عشاق المقهى المهجور» أعمق، لأنها اخذت الأصولية بعلاقتها بالنظام السياسي المحلي والعربي العام .         
   
 شبكة مترو
افتقدت «خمسون» شبكة المترو الخاصة بها كما افتقدت الوجود الكثيف للسكان وللعلاقات الاجتماعية والقوى القطاعية. المشكلة الخاصة فيها هي غياب البيئة الأصلية للحركة الأصولية. فالأصوليون في هذه المسرحية يشبهون  مزارعي الأرز في بنغلاديش، او الرعاة في التبت. ومن هنا يصعب التحديد في هذه المسرحية بين الدينامية الاقتصادية والدينامية الاجتماعية والدينامية الثقافية. اشير الى ذلك لأن غياب التوازن يغيّب المحرك، ولا محرك فاعلا في «خمسون».

 لذا؛ وقعت  المسرحية في السردية، وهي في ثلاثة انواع: سرد ادبي، وهو سرد استهلالي، وسوف يتردد السرد في اجزاء بالمسرحية، سرد يقلل او يخفف من القوة الإيحائية في المسرحية. لأنه يفسر، التفسير ضد المسرح، التفسير ضد الغليان، باب أول يتلوه باب ثان هو باب اقامة العلاقة المباشرة بالجمهور عبر نوع آخر من السرد. وهو السرد الحكائي. يعود التغريب في السرد الحكائي، يعود عنصر غارب الى تجربة نبذته منذ زمن طويل، اننا امام استعادة مخيبة، ولو انها تجيء هنا في سياق اضفاء نبرة ملحمية، سوف تقود الأخيرة الى نوع من الفائض المسرحي، حيث تصل الى نوع من التقويل، لن تصل الخطة الى خواتيمها السعيدة، على العكس.
 
اوقع التغريب اجزاء ـ ولو قليلة جداً ـ في مطب الشونسونييه. الأبرز المقطع الساخر من رد الأنظمة العربية، على انتهاك شارون حرمة المسجد الأقصى. تحفل المسرحية بالكليشيه وبصداقات لا تنتهي بين اطلاق وتعميم، غياب الانفتاح على الموضوعة الاستراتيجية المطروحة، غيب الكثير من احتمالات وقوع اللعبة المسرحية الكبرى، وهي لعبة اختبرها الجعايبي في الماضي كثيراً، وقد ضعفت بشكل طفيف في «خمسون»، ذلك ان حضور ادوات واشارات من مناهج مسرحية كثيرة، بقي حضوراً وازناً لكل شيء بنفسه. 
 
وثمة مشكلة واضحة في العمل هي أن الجعايبي لا يفضل النصوص الجاهزة. ولو اشتغل عليها بالارتجال وتقنيات الارتقاء الأخرى الحاملة للنص من ادبيته او انشائيته الى لغته المسرحية. تحكي «خمسون» عن استاذة شابة محجبة تفجر نفسها وسط ساحة، ويلقى القبض  على صديقتها، وهي طالبة عائدة من باريس أسهمت في عملية التفجير، تأخذ الشرطة السياسية على عاتقها التحقيق بالأمر بالعنف والتحقير، بالمقابل، ينهار والد الطالبة  العائدة، وهو مناضل يساري سابق، تبحث زوجته عن اسباب اسلمة ابنتها وابتعادها عن خريطة طريق والدها. النتيجة، شباب تائه مرتم في احضان صناع حلم بائس، بحسب ما جاء في النشرة التعريفية بالمسرحية.   
 
وتحاول المسرحية تقديم قراءة في مسيرة استقلال تونس، من دون السعي الى التوقف عند انجازات الاستقلال، فلا ذكر للرئيس السابق الحبيب بورقيبة، لا ذكر للرئيس الحالي زين العابدين بن علي، لا اطلالة على البانوراما التونسية العريضة. 

وعي شقي
 لا سجال في «خمسون» بين اصول وشروط وقواعد العلمانية وبين الإسلام السياسي. بل وعي شقي يدور حول شقائه بقوة اللحظ والسرد. لن يتهم احد الفاضل الجعايبي وجليلة بكـّار بالممالأة، ممالأة عالم الغرب بهدف تسويق الإنتاج، لا يزال الفاضل الجعايبي يتحدث بمرارة عن عدم اعتراف المصريين به، وهو اعتراف بلا قيمة، طالما ان شغله اشد مضاضة في طرحه الأسئلة الجوهرية على العالم الثقافي والسياسي بالعالم العربي، وهو اعتراف بلا قيمة اذا جاء من اناس من دون قيمة تجربة الجعايبي و«فاميليا».
 
 لا قيمة  لاعتراف اذا جاء من نقيب المسرحيين اشرف زكي المنشغل بقضايا مهنية بحته: حصر عمل غير المصريين بعمل واحد في السنة. تحصيل الضرائب. الاعتراف قيم من من هم في المستوى. لا زيادة.

تفصيل واسطي
 أفضت قناعة الجعايبي بالإسلام الى وقوعه هو نفسه في السلفية، فتوجد سلفيتان فوق خشبة واحدة، يشكلان بعداً واحداً لا بعدين. ارتبط الرجل بقواعد المنظور. ليس المقصود الرقص، العزف، العادات الطقسية الدينية، دفن الموتى، الختان، الزواج. وكل ما يخطر على البال من التفاصيل الدقيقة للحياة بكل جوانبها ومناشطها. المقصود كسر الجدار بين الرائي والمرئي، كسر الجدار بين الألوان. لذا؛ لم يكتسب اللون المفرد في العمل أهمية فكرية وشعورية وحسية. لأنه بلا علاقة بالألوان المحيطة.
 
شيء اقرب الى تفصيل واسطي. اذ ان المعلم الأكبر للكثير من الفنانين التشكيليين ميز شخوصه برؤوس كبيرة، مؤدى ذلك لا واقعية النسب، تغيب واقعية النسب في مسرحية الجعايبي وبكـّار. ورغم لا واقعية النسب لدى شخوصه، الا ان الشخوص تفيض بالحياة والحيوية. لا حياة ولا حيوية في شخصيات «خمسون» الأوجه لدى الواسطي محايدة، الأوجه لدى الجعايبي نمطية. اللقاء الأبرز بين الواسطي والجعايبي، انهما يحاولان التعبير عن مضمون الشخصية المرسومة من خلال حركات الأيدي والأجسام.

* تنشر بالتزامن مع جريدة «السفير» اللبنانية
تويتر