رفاعية يسبر في روايته أجواء من الأساطير. أرشيفية
يصوِّر الكاتب السوري ياسين رفاعية في روايته الجديدة «أهداب» مرحلة متقدمة من العمر مع ما فيها من ألم وحسرة ومن استكانة لا تلبث أن تهزها تجربة كأنها حلم يكاد لا يصدق، وهو دخول فتاة دون العشرين حياة بطل الرواية السبعيني الوحيد. و«أهداب» عند رفاعية بدت كأنها «عودة» الى الحياة لحبيبة طفولته «هدباء» التي ماتت طفلة. بدت كذلك شبهاً فعلياً وحروفاً، فكأن الاسمين بعض اشكال الجناس اللفظي. وقال رفاعية «أعرف. لم يبق لي الا القليل ولكن اذا ما اغمضت عيني يوماً فسأغمضهما على فرح وسعادة. اذ أخيراً اراد الله ان يجمع طفولتي وشيخوختي في حب واحد.. وعندما اذهب سأذهب بهدوء واستسلام فكم كانت الحياة مع اهداب باهرة وساخرة».
ينقلنا رفاعية في الرواية التي صدرت عن «دار الساقي» في بيروت الى تلك الحالة التي تبدو على قدر من الغرابة وما فيها من غبطة وخشية، الى مرور الزمن وفعله في الانسان وإلى ذلك الجو الذي اختصره الراحل سعيد تقي الدين بتعبير موح هو «ربيع الخريف».
تراوح أجواء الرواية بوعي وبتصميم من الكاتب بين الاميركي الروسي الاصل فلاديمير نابوكوف في روايته الشهيرة «لوليتا»، اذ بدا موقف بطل رفاعية - كما قال - نقيضاً لموقف بطل «لوليتا» الذي حاول الاستئثار بها واحتجازها ليمنعها من أن تكون مع الشاب الذي احبت، في حين ان بطل «أهداب»، على صعوبة حياته من دون هذه الفتاة، اعتبر وجودها «نعمة» في عمره، مع أن هذه النعمة بدت له في ذاتها سيراً عكس سير الطبيعة. وودعها في جو صداقة وبمرارة في نفسه وهي تذهب الى عريس ثري. أما الخيوط الفكرية والنفسية والايحاءات التي تنتج عن تداخلات في التجارب الحضارية فلا تقتصر على الادبي وحده بل يبرز فيها بالإضافة الى ذلك بعض خيوط من عالم الاسطورة. فمن ناحية الاسطوري نجد انفسنا في عالم يشبه من احدى نواحيه - وإلى حد ما - عالم فنان الاسطورة الاغريقية «بيغماليون» الذي صبّ «كل حياته»، كما يقال، في تمثال عشقه فحولته له الالهة الى امرأة. وبصرف النظر عن ترجح البطل الاسطوري بين طلب الفن وطلب الحياة، فما يلفت النظر ان بطل رفاعية - وهو فنان ايضاً - دخلت حياته تلك الفتاة المراهقة وحولتها الى نوع من النعيم. قام مرة اخرى هنا بخلق «نقيض» اذ انه حول صورة تلك الصبية، وهي صورة من لحم ودم، الى عمل فني، قال هو نفسه ما معناه إنه وضع فيه كل حياته ومشاعره. ومرة اخرى حرم الانسان من الانسان الحي فخلده في عمل فني. فبطل «رفاعية» لم يتوافر له «الخيار» الذي أتاحته الالهة لبيغماليون في تردده بين الفن والحياة، ولذا لقد «عوض» نفسه عن الغياب بحضور «ثابت» هو اللوحة. إن الفنانين والكُتاب لم يخترعوا النفس الانسانية ولا الحب والمشاعر البشرية وإنما «خاضوا» فيها وصوروها. ومن هنا قد لا يتمالك القارئ نفسه من ان يستحضر شخصية «شهرزاد»، خصوصاً في مسرحية توفيق الحكيم. الانثى التي لم تسافر الى مكان لكنها تعرف العالم بتفاصيله ولم تدرس في مدرسة او معهد لكنها تختزن كل معارف العالم. |