في قصائده غير المنشورة، إلا قبل يومين فقط، يعود الراحل نزار قباني إلى طفولته الشعرية، إلى نسائه وحبيباته وأحلامه. ولكن أهم ما في هذه القصائد، هو موقفه من الشعر الجديد في الوطن العربي.
لا يرى نزار قباني في هذا الشعر سوى نقيق ضفادع وخواء. ويرى أن الشعر الحقيقي هو ما تعلمناه في مدرسة طرفة ولبيد. ورغم أن كثيراً مما يكتب اليوم تحت يافطة الشعر، يسيء إلى الشعر وإلى الكتابة، إلا أن الموقف العدائي على إطلاقه أمر جد غريب على شاعر تعرّض هو نفسه لهجوم ضار حين خرج عن القصيدة العربية النمطية والتقليدية.
جاء نزار قباني إلى الشعر من باب جديد قام هو بفتحه وهندسته وتحديد مقاساته بطوله وارتفاعه وعرضه. جاء ممتطياً صهوة جواد لم يكن من أحصنة الشعر من قبل، فاستخدم اللغة اليومية، واللغة المخبوءة، وتسلل إلى أعماق الشباب ليستل منها هواجسها وأحلامها وأشواقها الإنسانية، فكان أن اتهم بالتهتك وبكل ما يسيء إلى المرء أخلاقياً. ورغم ذلك، فقد وجد نزار قباني قراء مثابرين ومخلصين وصادقين مع أنفسهم. ولكنه وجد كتّاباً مناصرين ومدافعين عن توجهاته وفتوحاته الشعرية التي غيرت وجه القصيدة العربية وتفاصيلها. لم يكن أحد قبل نزار قباني يجرؤ على القول «سمراء صُبي نهدك الأسمر في دنيا فمي». كان ذلك تحدياً لمنظومة سائدة من القيم الأخلاقية، ومن القيم الشعرية أيضا. حيث الشاعر رائد ومصلح ومربّ وواعظ ومعلم وقدوة، والشعر رسالة أخلاقية ينبغي حملها بأمانة والدفاع عنها بشرف. خرق نزار قباني هذا كله، وكتب كما لم يكتب أحد من قبل، فحُورب شعرياً وإنسانياً. كان على نزار قباني أن يعرف أن محاربيه وخصومه هم الشعراء التقليديون أولاً، ومعلموهم ومريدوهم وأنصارهم ثانياً. وكان عليه في أيام شيخوخته أن ينظر إلى الشعر العربي الجديد بمنظار يختلف عن منظاره الشعري الذي احترمناه وقدرناه. كان عليه أن يدرك أن الزمان الشعري الذي لم يتوقف عند طرفة ولبيد والمتنبي وأحمد شوقي، لن يتوقف بدوره عند نزار قباني. والغريب أن نزار قباني يقر في قصيدة أخرى بفحولة العرب شعرياً. وهو أمر يحمل تناقضاً كان في غنى عنه، فيما لو نظر إلى القصيدة كفعل حي، قابل للتغير والتفاعل مع الشروط التاريخية التي تتغير بدورها بين حقبة وأخرى. ربما يكون في بعض الشعر العربي الجديد شيء من النقيق والخواء، ولكن ما يجب أن ندركه أن الشعر والكتابة عموماً لا يمكنهما التوقف أو التكلس والتحجر في شكل ما. وليست مهمة الشاعر الكبير أن يبادر إلى تكريس شكل وتفضيل آخر، بمقدار ما تكون مهمته كتابة الشعر فقط. وهنا يحضرني ما سمعته يوماً من الشاعر والفنان منصور الرحباني، حين طالب العازف بعدم الحديث عن القيثارة، بل بتناولها ومداعبة أوتارها. ربما كان على نزار قباني أن يتذكر شبابه شعرياً، بداياته وطموحاته، والحروب التي شنها الآخرون ضده، في محاولة لإسكاته، قبل أن ينعي لنا الشعر العربي الجديد ويسقطه بالضربة القاضية.
damra1953@yahoo.com
|