اغتيال القصة القصيرة


مازلت أذكر القاصّة الأردنية التي أهدتني مجموعتها القصصية، مطلع تسعينات القرن الفائت. وما زلت أذكر الحيرة التي تملكتني وأنا أقرأ قصصها، ذلك أن قصصها كانت ذات طعم بلاستيكي بارد. وهذا ما جعلني أسألها في اليوم التالي عن سبب اختيارها القصة القصيرة كقناة إبداعية لها. وكانت مفاجأة بالنسبة لي حينما قالت إنها تعلمت فن كتابة القصة القصيرة في أحد المعاهد الأميركية.


وقبل أيام قرأت في إحدى الصحف العربية أن جهة رسمية انتهت من تخريج بعض الطلبة بعد انتظامهم في دورة تطوير مهاراتهم في كتابة القصة القصيرة.

 

مناسبة هذه الأمثلة هو هذا الاعتداء على فن القصة القصيرة وتقزيم امكاناتها في زمن الوجبات الجاهزة وثقافة الصورة والقارئ المتثائب بدلال الإمكانات المتاحة والصفاقة الذاهبة باتجاه تدمير المُنجز الإبداعي الإنساني.

 

فالقصة القصيرة، التي مازالت على صعيد عمرها كفن نيئ، لا يتجاوز القرن الواحد اضافة الى بضع سنوات، صارت من الفنون التي يسهل السطو عليها والإحلال فيها وتمثلها تحت أكثر من مسمى.

 

فالمحرر الصحافي صار حينما يود أن تكون مادته الصحافية مثيرة ومشوقة يقول لمندوبه قبل أن يذهب لتغطية الحادثة السياسية أو الاجتماعية أو حتى الاقتصادية «أريد منك كتابة STORY  «عن الموضوع»، والغريب أن العديد من التغطيات الصحافية صارت تأخذ في سردها التشويقي المثير اسلوب القصة القصيرة وتمثلها.


أما التقارير التلفزيونية التي تبثها الفضائيات، فحدث ولا حرج، فهي تبدأ دائما من حيث عدم التوقع وذلك على سبيل الإدهاش، وتنتهي بما يُشبه القفلة القصصية.

 

وفي تواتر الحادثة الكتابية المعتدية على فن القصة القصيرة، يمكن الإشارة الى بعض شعراء قصيدة النثر، التي صار معظمهم يكتبون القصة القصيرة المضغوطة والمشعرنة في بطن قصائدهم.

 

وأنت إن أردت أن ترى القصة القصيرة جداً، النائمة في القصيدة، ما عليك سوى أن تجعل القصيدة تتخلى عن تفقيراتها العمودية وتجعل تفقيراتها أفقية.

 

والغريب أن كتاب القصة القصيرة أنفسهم بدأوا يسهمون في هذه الحملة العدوانية على القص، من خلال قبولهم فعل التهميش الذي يمارس عليهم في المهرجانات العربية والدولية، والاكتفاء بتأسيس نواد للقصة القصيرة، على مواقع الانترنت، وعلى صفحات بعض المجلات والنشرات. ومن خلال تلك الكاتبة الأميركية التي كتبت مجموعة قصصية كاملة الشروط الفنية للقصة القصيرة، وقبلت، بعد أن سلمت الرواية لإحدى دور النشر، أن تتحول المجموعة، بسبب رغبة محرر دار النشر، الى رواية. وقد حدث هذا بالفعل.

 

والغريب أيضا أن بعض كتّاب القصة القصيرة اعتقدوا أن فن القصة القصيرة قد قطع شوطه العمري الكافي لإحداث نقلة كتابة القصة القصيرة جداً، وأخذوا يكتبونها!

 

لكن من قال إن القصة القصيرة، وبرغم كل هذه المحاولات الداجنة قابلة للجب والاغتيال؟ إنّ الفعل الذي أرساه رواد كتابة القصة عالمياً من أمثال تشيخوف وجوجول وموبسان وادغار الن بو، وعربياً من أمثال يحيى حقي ويوسف ادريس وزكريا تامر، سيظل يشكل التحدي الحقيقي لهذا الفن ولصعوبة تمثله، أو الإحلال فيه.


مثلما سيظل يصعب على دورة تدريبية عرجاء، تُنظم في كتابة فن القصة القصيرة، أن تُنتج قصة قصيرة مثل «المعطف» لجوجول، أو «الشقاء» لتشيخوف، أو «بيت من لحم» ليوسف ادريس، أو «النمور في اليوم العاشر» لزكريا تامر.


  
khaleilq@yahoo.com   

الأكثر مشاركة