لعل التشابه بين انغمار بيرغمان وارسون ويلز مسألة تثير الاستغراب! فإذا ما أخذنا فيلم «الفراولة البرية» لبيرغمان وفيلم «المواطن كين» لويلز، فأين سنجد الصلة الفنية في معالجة الموضوع المتشابه عند الاثنين؟ البحث عن الطفولة الضائعة!
يقود البحث عن الطفولة المفقودة، للوهلة الأولى، إلى التطابق في اختيار طريقة المعالجة، وقد يشكل ،أصلاً، امتلاك التعبير السينمائي، لدرجة يأتي التأكيد فيها غالبا، عندما يذكر الفيلمين، انطلاقاً من خاصية الفيلم كفن. لكن يوجد، عند المقارنة بين الفيلمين، فارق مهم، فبيرغمان، عل العكس من ويلز، يذهب أبعد في بحثه السينمائي عن الطفولة: تشخيص حالة الأنانية! لا يخاطب بيرغمان المتفرج ذهنيا، كما يفعل ويلز، إنما يخاطبه وجدانيا! يؤخذ على بيرغمان رومانتيكيته، من هنا يأتي السؤال حول تشكيل وتميّز جمالية أفلامه وتأثيرها في وعي مشاهدين متغيّر.
أن يدفع المتفرج إلى المشاركة في طريقة تفكير وتأويل متعددة هو خيار شرعي. غير أن بيرغمان يذهب في طريق آخر: طريق ينتج من فهمه للفيلم كوسيلة للتأثير في الوجدان، فهو يراهن على الإيهام، الذي بوسعه تحريك الإدراك، بوساطة تغيير الحالة الدرامية بطريقة نادراً ما تكون متفائلة! يكتب بيرغمان: في «الفراولة البرية» يتعانق الواقع مع الذكريات، مع أحلام اليقظة وأحلام النوم «انظر إلى هذه الأحلام على انها امتداد للواقع، وبالتالي على انها سلسلة من مواقف وأحداث واقعية، تقع للبطل الرئيس في فترة مهمة من حياته». يتبع بيرغمان في تأثيره المحسوب بدقة، دراماتورغية مسرحية، ليست هي درامية «أرسطو» ولا طريقة ملحمية أقل «بريشت»! إنما هي درامية شتريندبيرغ وابسن: التداخل بين تماهي المتفرج الوجداني مع مواقف إنسانية، والحفاظ، نسبيا، على «مسافة» تنتج من نزع البدهي عن المواقف وإثارة الاندهاش حولها. فمع إن الإنسان يبدو عند بيرغمان، مجهولا، كقاعدة، لكنه يبدو، أيضاً، منخرطاً في تناقضات معروفة! «اكتشفت أن الفيلم لا يتأثر سلبا من جراء تحطيم الإيهام بالواقع، أي إرغام المتفرجين على الانسياق وراء الوهم، بدافع وضعهم بعدئذ وجها لوجه أمام آلة العرض: إيقاظ الجمهور، من جهة، وحمله على الدخول، من جهة أخرى، في عالم الإيهام الدرامي»! « إن التصوير بالنسبة إليّ هو وهم مكون من تفاصيل وانعكاس لواقع، كلما عشته مدة أطول، يبدو لي وهميا أكثر». إن تجريد العالم الفني الذي يصنعه بيرغمان، إضافة إلى رصد شخصياته في تفاصيل الخاص، يبرهن على قوة بيرغمان العظيمة، فهو إذ ينفُذ، فنياً، بنظره إلى عمق الـخاص، فإنه يصل، في الوقت نفسه، إلى الـعام: تفجير نوع من علاقات اجتماعية أوسع، يكون بمثابة «حالة» تعبير عن شروط اجتماعية أرحب! «الحقيقة اني أعيش دائما وباستمرار في طفولتي، كما إني اسكن باستمرار في حلمي ومنه أقوم أحيانا بزياراتي للواقع».
في نهاية كتابه «صور» يختتمه بيرغمان بهذه العبارة: «صعب التفريق بين ما كان ثمرة الخيال وما يعد، ببعض الجهد، واقعياً. ربما تمكنت من إجبار الواقع على البقاء واقعيا، ولكن كانت هناك الأشباح والأطياف. لماذا كانت تلزمني؟ وماذا عن الحكايات؟ هل هي حقا واقعية؟
alzubaidi@surfeu.de
|