ينسى أن يموت

 

 تمر هذا الشهر الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر اليماني الشهير عبدالله البردوني، الذي ينتظر القراء منذ سنوات صدور آخر أعماله المخطوطة، التي لم يتمكن من نشرها قبل وفاته، ومنها ديوانان وثلاثة كتب نثرية أحدها يضم سيرته الذاتية.

لمع اسم البردوني في سماء القصيدة متجاوزاً أفقها المحلي إلى الفضاء العربي، وهو الذي فقد بصره في الخامسة من عمره إثر إصابته بمرض الجدري، وترعرع في بلد أقصى ما كان يهيئه للكفيف، آنذاك، أن يصبح مقرئاً أو إماماً لمسجد.

ولد في بيئة ريفية حفرت ملامح قسوتها على تقاطيع وجهه، لكنه لم يستسلم لظروف نشأته، ولم يقنع بالدور الذي يحصر فيه المجتمع أمثاله من كفيفي البصر، بل استمع لصوته الداخلي الذي كان يحثه على السعي نحو التميز وتحقيق الذات.

صدرت مجموعته الأولى «من أرض بلقيس» في مصر عام 1961 ضمن سلسلة «الألف كتاب» التي كان يشرف عليها العقاد، ثم تتالت أعماله الشعرية في الصدور إلى أن بلغت 12 ديواناً، كما أصدر ثمانية كتب تنوعت بين النقد وتاريخ الأدب والتاريخ السياسي.

يكمن سر شعبية البردوني في حفاظه على العمود الشعري، لكن قصيدته تطورت في المراحل الأخيرة من تجربته إلى حد استغلاق شعره على ذائقة القراء البسطاء الذين لم يتمكنوا من تلقي ما وراء الشكل التقليدي للقصيدة، فأثبت البردوني مقدرة العمود الشعري على استضافة رؤى الحداثة التي كان قريباً منها ومتابعاً لتجلياتها النصية ومعاركها النقدية، وفي كتاباته المنتظمة بالجرائد المحلية كان يصدم القراء التقليديين بنشره مقتطفات شعرية عربية تنتمي للحداثة شكلاً ومضموناً ولا تروق للذين تعلقوا بالقصيدة البيتية.

حظيت تجربته بحضور لافت في الساحة الشعرية العربية منذ إلقائه قصيدته الشهيرة «أبوتمام وعروبة اليوم» في مهرجان أقيم بمدينة الموصل عام 1971، وعرف الراحل لدى النخبة المثقفة بانحيازه للبسطاء ومعارضته الظلم، فلم يمدح حاكماً ولم يتقرب من أي زعيم، وظل طوال حياته يبقي على مسافة بينه وبين الحكومات المتعاقبة، ورغم الطلب الكثيف على كتبه الشعرية والنثرية، إلا أنه اشتهر بحرصه على بيعها بأسعار زهيدة، وعقب فوزه بجائزة سلطان العويس عام 1993، وجّه قيمة الجائزة لإعادة طباعة أعماله، فكانت تباع بأسعار رمزية، وبعد وفاته بأشهر عام 1999 خلت المكتبات من دواوينه ومؤلفاته النثرية. لم يشكل له فقدان البصر عائقاً أمام الاطلاع على الجديد، فكان له على الدوام رفيق يجالسه ويملي عليه نصوصه الجديدة ويتصفح معه أحدث ما تنتجه المطابع العربية. اشتهر بضحكته المجلجلة وبحبه للسخرية والتفكه، رغم أن كثيراً من شعره يضج بالحزن:
تمتصني أمواج هذا  الليل  في  شرهٍ صَموت
وتعيد  ما  بدأت وتنوي  أن  تفوت ولا تفوت
فتثير أوجاعي وترغمني على وجع  السكوت
وتقول لي:  مت أيها  الذاوي فأنسى أن أموت.

بحلول الذكرى التاسعة لرحيل عبد الله البردوني نتساءل مع القراء والنقاد المهتمين بتجربته الشعرية: هل ستحل الذكرى المقبلة وقد أصبحت أعماله المخطوطة وسيرته الذاتية بين أيدينا؟     
 
  slamy77@gmail.com 
تويتر