وداعاً.. صاحب زهر اللوز
لم يجل بخاطر أحد أن القلب الذي تعايش مع الورد والشوك، والأمل والوجع، سيتوقف عن النبض، لأن صاحبه درويش عانق تجارب الألم من قبل وعاد، أجرى جراحة في باريس، وحينما أفاق طلب ورقة وقلماً كيما يطمئن إلى لغته ووجوده، وخطّ ما خط ذلك العائد من مواجهة مع الموت. لذا؛ كنا على يقين بأن درويش الذي واجه الموت كذا ألف مرة وانتصر عليه سيؤوب.. وأن الفارس الذي هزم من أرادوا تغييبنا سيعود، فدرويش كان يقدم نفسه مع كل قصيدة قرباناً على مذبح الفن ويرجع أعذب صوتاً وأثرى رؤى، وانتظرنا أوبته بجدارية جديدة، تخرج لسانها للعدم، وتقول للغياب: حضوري أقوى منك.
لم يشك أحد لأن درويش في منظارنا ـ نحن مريديه ـ متحرر من سطوة الزمن، ووطأة الكبر.. مبرّأ من الوهن العمري والشعري، لا يعرف سوى الوهج والألق والصوت المجلجل الذي يفتت كتل الألم، ويفجّر الحواجز، ويجمع شتات التغريبة.
درويش الذي كان حينما تحاصرنا الجُدر العازلة، يحملنا عبر أجنحة قوافيه إلى فضاءات الحرية، تميتنا الأحداث ويحيينا شعره، يعرج بنا إلى سدرة المنتهى الإبداعي، يملؤنا بالفرح الطفولي الشعري، يجعلنا نتخلى عن خجلنا ووقارنا.. يصالحنا على ذاتنا وبراءتنا الأولى، كان حينما يحللا في مكان يجعلنا نهرول في الطرقات، ونقول لمن نعرف ومن لا نعرف: درويش في المكان الفلاني، من يبكينا حتى نضحك، ويزرع في عيوننا حدائق ذات بهجة حتى نرويها بدموعنا..درويش.. القطب والولي وشيخ المعرفة الشعرية.. الظل العالي.. عصفور الأمل الفلسطيني الذي يترعنا بالفرح والأحلام والموسيقى، والمقاومة والحب.. الحب الذي يجعلك تحب الإنساني حتى يتحطم من تلقاء نفسه اللاإنساني..
درويش.. المارد المتمرد على قماقم الاحتلال، والشادي لأطفال المخيمات والشتات، ولكل من في دمه جينات الأقصى والبلدة القديمة وأشجار الزيتون والليمون وزهرات اللوز وهيل قهوة الأمهات في الصباحات، والعجائز الذين يودّعون أبناءهم، أو يزفونهم، إلى الأعراس السماوية..
درويش.. من أعاد للقصيد أهلها، ومن أثبت أن الزمن مازال يحب الشعر، وأن ديوان العرب ممتد موصول، وأن أسواق القريض عامرة..
درويش.. الصوت الحريري، والماء النمير على شفاهنا التي شقّقها نثر واقعنا الدامي، وأناشيد المقاومة والخلاص:
«حاصر حصارك لا مفر.. سقطت ذراعك فالتقطها.. وسقطت قربك فالتقطني.. واضرب عدوك بي.. فأنت الآن حر حر وحر..». درويش من ربّى فينا الأمل، وزفّ قوافل الشهداء بقيثارته، وأطلق زغاريد العرس في وجه الزمن البربري والضمير العالمي المتمدن النائم.. محمود.. صاحب الاسم ذي الأحرف الخمسة الأفقية التكوين التي تعددت دلالاتها:
«واسمي وان أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرف أفقية التكوين لي: ميم: المتيم والميتم والمتمم ما مضى حاء: الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان ميم: المغامر والمعدّ المستعدّ لموته الموعود منفياً، مريض المشتهى واو: الوداع، الوردة الوسطى ولاء: للولادة أينما وجدت ووعد الوالدين دال: الدليل، الدرب، دمعة دارة درست، ودوري يدللني ويدميني وهذا الاسم لي..»
درويش.. حبيب وطن سينتظر منه قصيدة في عرس حريته، والشداة الذين يتأبطون أشعاره لعلهم يدخلون يوماً رحاب درويشهم الكبير، والأحبة الصغار الذين يكتبون رسائلهم للحبيبة الأولى من وحي كلماته.. درويش.. سيحنّ إليك خبز وطنك وقهوته، وستشتاق اللغة إلى فتاها المدلل الذي كان يعيد ترتيبها.. ولن يصمت شعرك الناري المتألق المتفرد، وإن ودعناك بأعيننا فأنت حاضر في داخلنا، منقوش على جداريات قلوبنا. . وعلى أشجار اللوز في حيفا. |