درويش بين سبتين

يوسف ضمرة


ما بين السبت الماضي وهذا السبت، أسبوع كامل حافل بمئات الصفحات في الجرائد العربية، في رثاء الشاعر الكبير، وفي استذكار أصدقائه تواريخ ووقائع يرونها جديرة بالمشاركة في هذا المأتم الإنساني والشعري الكبير. 


هذا يعني أن ثمة من سيقول: ماذا تبقى للكتابة عن محمود درويش؟


لكن المشكلة أن درويش أخذ معه الكثير مما يلزم للكتابة عنه. بل سبق الجميع في هذا السجال الغرائبي، عبر قصائده الأخيرة، تحديدا القصائد التي لم يكن الموت مجرد ضيف عابر فيها، بل كان سيد الحضور، كائناً ارتبط بالشاعر ارتباطاً غريباً قبل أن يحين الموعد النهائي للرحيل. ولعلها المرة الأولى التي يطيل فيها الموت البقاء محاوِراً ومحاوَراً.. مقيماً كصديق لدود أو عدو لابد من محاورته في شكل أو في آخر.


 لم يغضب الموت من الشاعر إلا متأخرا. بل لعل الشاعر نفسه هو الذي غضب من الموت أخيراً لطول إقامته، فمحمود درويش هو الذي قرر نزع الأجهزة الطبية سلفاً، لئلا يتيح للموت فرصة التشفي والشماتة.


لقد وصل التحدي بين الشاعر والموت حداً استثنائياً. أما الأسباب فإنها أكثر من أن تجمع الآن، حتى ولو في كتاب. فمحمود درويش(لاعب النرد) يتساءل: من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟ ثم يواصل سرد اللحظات التي أبقت عليه حياً بالصدفة، وهي كثيرة جدا. فقد كان يمكن أن يموت كما ماتت أخته الصغيرة مثلاً، وكان يمكن أن يكون في باص الرحلة المدرسية الذي تعرض لحادث سير، وكان يمكن أن تصيبه الرصاصة لولا مشيته البطيئة، أو يتمزق في انفجار لولا مشيته السريعة. ولكن المهم، أننا فجأة أصبحنا من دون محمود درويش. كأن ظاهرة كونية غريبة حدثت فجأة. كأن الأرض شهقت فانتبهت الأشجار ورفعت رؤوسها. كأن البحر مال من وجع في خاصرته فتحسسها بمائه المالح. يا الله، كم زهرة تردد الآن اسم درويش! كم شهيد  وأم وحبيبة ووحيد  ونخلة وقط !


لم تترك شيئاً لنا يساعدنا على النسيان.
أنت اختطفت اللغة والوسامة والعفوية واللجاجة:     
 لم أَجِدْ موتاً لأقْتَنِصَ الحياة 
ولم أَجِدْ صوتاً لأَصرخَ: أَيلاها
الزَمَنُ السريعُ! خَطَفْتَني مما تقولُ 
فهل اقتنصت الحياة أخيرا بهذا الموت؟
وهل فكرت في الحبيبات اللواتي كن يحملن ديوانك قرب صدورهن؟
هل تعرف بماذا أفكر الآن؟
بغرفتك التي تركتها وأغمضت عينيك على صورتها. بأشيائك الصغيرة. بأصيص كنت تسقيه كلما سمعت حشرجة صوته. بقصاصة كتبت عليها جملة كنطفة لقصيدة بعد قليل، بعد عام، بعد عامين وجيل. برقم الهاتف الذي نسيته آخر مرة حين هممتَ بالاتصال. بعلبة دواء لمستها قبل الرحيل. بأمك التي أوصتك ألا تذهب في الطريق إلى طروادتهم، وظلت تصنع الخبز الذي تحب، وهي تدرك بالقلب الأمومي أنك لن تعود. أفكر بهذا الموت الملحمي الذي لا يشبه الموت في شيء، سوى التابوت الخشبي الصقيل، ودموع العاشقات.  أفكر في رمية نردك التالية. كيف كانت ستغدو لو استمهلت الموت دقائق معدودات؟ لو أخبرته أن لك موعداً مع رمية أخرى. لو قلتَ له: فكر بغيري 

damra1953@yahoo.com
تويتر