فخ المحلية
كثيرة هي القصائد التي يُنتجها الشعراء العرب، مثلما هي كثيرة أيضاً الروايات والقصص القصيرة التي يكتبها أصحابها من الكتاب العرب، وتظل حبيسة المناخات المحلية، ضمن جغرافيا الدولة التي ينتمي إليها صاحب هذه الكتابة أو تلك. لكن السؤال هو الى أي حد استطاعت مثل هذه الكتابات أن تتصلب وتظل قوية لحظة مغادرة جغرافيتها المحلية، وإلى أي حد استطاعت أن تظل تحمل تلك الضجة التي رافقت ولادتها، حين تعدت الحدود البرية أو الجوية، أو حتى البحرية لذاك البلد الذي ولدت فيه.
إننا هنا نتحدث عن الكتابة العربية التي ولدت وتشكلت وربما هرمت في مكانها تحت ضجة التطبيل المحلي لها، وفقدت قدرتها على إحداث الضجة الموازية لها لا على مستوى الادب العالمي، بل على مستوى الوطن العربي الذي كتبت بلغته معظم هذه النصوص.
إن القزمية الابداعية التي يعاني منها أكثر من جيل في أكثر من دولة عربية، جعلت بعض هذه الدول تسعى وضمن حادثتها الابداعية اليتيمة الى تكريس العديد من كتّابها كعلامات متميزة في العديد من القنوات الابداعية، واعتمادهم كمرجعية في قراءة الإرث الكتابي والإبداعي لها. واعتبارهم المنارة المضيئة التي أسست بضوئها المبهر والمدهش تجربة كتابة.
إن ظاهرة الأدب المحلي المتورم الحدوث داخل محليته الضيقة وربما النائية، هي ظاهرة عربية تستحق المراقبة والمعاينة والفضح احياناً، لأنها ظاهرة قائمة على الإمساك بالجهل المحلي القائم ومحاولة تثقيفه في قصيدة أو قصة أو رواية بحجة الخلوصية في الانتماء للوطن.
ولهذا كثيراً ما نمسك بالقصيدة المنبرية المثقلة بالحرافش اللغوية الثقيلة اللدنة عند هؤلاء الشعراء الذين يكتفون بحدوثهم محلياً من خلال الأمسيات الشعرية المتلاحقة والمهرجانات المحلية المناسباتية التي تنتهي في العادة عند انتهاء وقوعها كحادثة تستجدي القصائد. وما أكثر ما نمسك بالرواية المحلية الاستغفالية التي كتبها صاحبها ضمن دهشة إمكانية الكتابة وتمثلها. وما أكثر الروايات التي كتبت في مناخاتها المحلية الضيقة، وتم تسويقها كروايات.
مع العلم أنها روايات لا تميز في إنشاء مضمونها بين الحكاية الشفاهية الطويلة، وبين فن الرواية القائم اساساً على معادلات سردية معقدة. وكثيرة هي القصص القصيرة التي تتوخى عند هؤلاء فكرة كتابة «الخرافية» القصيرة، البعيدة كل البعد عن المهارة اللغوية الاختزالية التي تظل تميز القص، وتميز قدرته عل الامساك بالمفارقة الانسانية والحياتية بمخلبية نادرة.
إن المحلية الضيقة التي تحولت عند العديد من الكتّاب العرب الى فخ يصعب الانفكاك منه، يمكن اعتبارها في جانبها الايجابي، هي النبع الاول الذي استقت منه قامات ابداعية عملاقة عبر التاريخ الابداعي عموماً منجزها الكتابي.
فالفكرة الاساس في المحلية تكمن في قدرة المبدع الحقيقي على سبر أغوارها وتقليبها ومن ثم العمل على منحها البعد الانساني القابل للتعميم العالمي، الذي من الممكن في النهاية، أن يجعل هذه المحلية تأخذ طعمها الإنساني الذي يمكن أن يشكل اضافة حقيقية للمشهد الإنساني العام. وفي مراجعة بسيطة لمعظم الكتابات التي حصدت الجوائز العالمية، وخصوصاً جائزة «نوبل»، سنجد أن ديدنها الاساس الذي انبثقت من خلاله هو المحلية العميقة ذات الوقع الانساني المدهش التي استطاع كاتبها أن يُنهضها من عاديتها ومن محليتها الضيقة، ويدمغها بالمشاهدة المرتعشة بالرؤى التي تلدغ روحك وتقودك الى قراءة فرحة، لا إلى قراءة فقيرة من الدهشة انتجتها كتابة ظلت تزغرد لحدوثها في الجغرافيا الضيقة.
khaleilq@yahoo.com |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news