محمود درويش.. الذي جعلوه بطلاً!
وفاة درويش تسببت في قشعريرة وطنية عارمة في المجتمع العربي. أ.ب لم تكن حصة «محمود درويش» من البطولة الشعبية أكبر، ولم تكن أقل، من حصة أي واحد من الـ10 ملايين فلسطيني المنتشرين في أربع رياح الأرض!
لكن «درويش» الذي مثلت وفاته قشعريرة وطنية عارمة، هزت المجتمع العربي، هو «محمود درويش» الشاعر، الفيلسوف، الرائي، والمثقف الموسوعي، الذي أصيبت الأمة بخسارة معرفية قاصمة فور غيابه، وعليه كان يترتب أن يُقرأ غيابه لهذا الجانب، وليس لجانب الرمزية الوطنية الفلسطينية التي أصيبت في العقد الأخير بضربات متتالية كان آخرها رحيل «الحكيم جورج حبش».
ولست أذهب حتماً إلى التقليل من فداحة الخسارة الوطنية، والنضالية، بغيابه، أو الانتقاص من جدارته بحمل لقب «شهيد» وقائد وزعيم، لكن الشعب الذي أنجب أكثر من مليون مقاتل وشهيد وأسير ومطارد قادر على انجاب الآلاف منهم بعد ساعة، بينما تحتاج الذروة المعرفية الخلاقة، التي ارتقى اليها «درويش»، الى عقود طويلة من الشحذ الثقافي والذهني لتكون بوسع شاعرٍ آخر، يبدأ بعدها من حيث بدأ الشاعر الراحل!
وعليه فربما كانت الفورة العاطفية مفهومة، ومتفهمة، من الكتاب الصحافيين ومن القراء، ومن عموم الناس، لكن المتوقع من النقاد ومن الشعراء ومن الكتاب الكبار، ألا يتعاملوا مع «محمود درويش» من منطق البطولة، ومن جهة «الفلسطنة»، والمشوار الثوري، فالراحل لم يكن نقيباً أو ملازماً في تنظيم، أو حركة، ولم يكن في باله أن يُختصر في صورةٍ على «بوستر نعي».. فمع الصون العالي أبداً لمقام المقاتلين والشهداء، لكن «درويش» كان ضلعاً من ضِلعي خارطة فلسطين، ومكوّناً من مكوناتها الثقافية والحضارية والجمالية.
وبعد ما يقرب من نصف قرنٍ من الإخلاص للشعر، بمثابرةٍ نادرة، ووفاءٍ عظيم، كتب «محمود درويش» اسمه واسم أمته بكل لغة في ثقافات آسيا الوسطى وأميركا الجنوبية، والمكتبات العامة في اطراف افريقيا، بل ووصل بنشيده العالي وصوته الواثق الى بلادٍ لم يكد يصلها حبر الترجمة أو شغف الكتابة!
واستطاع، كما يليق بشاعر، أن يتلمس ذلك الإنساني المشترك بين فلاحي المتوسط ومزارعي الريف المغاربي وفقراء الساحل الهندي وجميلات المدن اللعوب وأمهات المقاتلين في غير ثورة وغير بلد، وأن يغادر تلك «الزنزانة الرقيقة» التي أريد له أن يظل أسيرها حين سمي بشاعر المقاومة. غادرها الى مناطق أكثر جدلاً وإعمالاً للعقل، واقترب من مساحات خطرة ربما غامر كثيرون قبله بطرقها، إنما ليس بذات الوثوق وذات الوضوح، فلم يسبق لشاعر أن واجه الموت بهذه الندّية والصلابة والصوفية والتسامح.
ولم يذهب «محمود درويش» الى العالم ضيقاً بنسبه الوطني، أو تبرّماً من بلاد لم تتسع له، بقدر ما رأى أن بلاده فكرة وحضارة وتراثاً خلاقاً أثرى وأكبر من أن تحشر في هذا التابوت المتطاول بين نهرٍ قليل الماء وبحرٍ نزق المزاج!
ولم يلبث الشاعر أن صاغ جدلية فريدة، بين قضية تحرر وطني وكفاح ضد الاحتلال وبين الانساني والجمالي والفاتن، وبين الحرب والحب، وبين سرير الغريبة والفقد الدائم لفيء القرية الفقيدة.
فارتقى منصة الشعر في عواصم صافحته بودّ وانحنت له ولشعره، ولقضيته، ولفكرته، وفي عواصم أخرى اضطرت الى الاعتراف به فنياً وجمالياً ولم تستطع إلا احترامه كمجدّد في الشعر العالمي برمّته.
لذلك كلّه كان محزناً وغير مدهش أبداً، ذلك التناول السهل الذي انتحاه بعض الكتاب في الرثاء والتمجيد والمديح كأنما الحديث عن فتىً عربي حقق ميدالية ذهبية في «اولمبياد بكين»، فضلاً عن الفجاجة التي تنتاب الرثاء العربي دائماً فتجعله حديثاً عن الراثي وذكرياته لا عن المرثي، وعن المواقف التي جمعته بالراحل، الذي يجب أن يكون «بطلاً» بأي شكل، ليصير الراثي هنا بدوره بطلاً بالضرورة بحكم صداقته له، أو حتى بحكم مكالمة هاتفية أجراها معه مرة!
الحري بالقراءة إذا، وبالدرجة الأولى، هو الجدارة التي حققها «محمود درويش» لفلسطينيته، وهو الذي بذل جهداً خرافياً في العقد الأخير «لتنظيف الشعر الفلسطيني من الحجارة»، ومن ركام الشعارات التي علقت به، ومن الخطابة والضجيج، ليخطو به الى «العادي والبسيط»، وإلى الانسانية الأكثر اتساعاً ورحابة، وإلى ترجمة أشواق شعبه الى أكثر من 30 لغة، محققاً بذلك إجابة موضوعية وواضحة عن الذين انتقدوا خروجه من «فلسطين»، وبقوا هم منذ 40 سنة يكتبون القصيدة بذات «اللغة الشعاراتية الصاخبة»، التي لم تغادر السبعينـات بعد! لكن أكثرية من الناس، ومن المثقفين أيضاً، للأسف، لا تريد أن تفهم مقولة «محمود درويش» التاريخية: «اننا نناضل لنصير شعباً عادياً كباقي الناس.. إنني أحلم بيومٍ استطيع فيه أن أسبّ فلسطين!».
كان «محمود درويش» يسعى طيلة عمره، وشعره الى مغادرة المساحة المقدسة، والطوباوية، الى نزق العادي وتفاصيله وأخطائه، كان يحلم بيومٍ بسيطٍ لشعبه: إفطار في شرفة المنزل دون أن تراقبه الطائرات! ولدٌ لا يقضي مراهقته في المعتقل! أمٌّ تتزين للأب دون أن تفاجأ بجنود الاحتلال في غرفة الماكياج! شارع واحد طويل يتسكع فيه عاشقان دون أن يهيئا الهويتين على الحاجز! عائلة تجتمع بكامل أفرادها في زفاف الابنة الصغرى! بلدٌ بلا وزارة للأسرى أو مقبرة للشهداء!
هكذا ه «فلسطين» التي حلم بها، التي حملها الى العالم بأكثر صورها وضوحاً، وربما كان منجزه وحده في هذا السياق قد تفوق على ما حققته فصائل كثيرة منذ انطلاق العمل الوطني في ستينات القرن الماضي، ولا أريد أن أبدو هنا بمحل المتجرئ على مجمل الانجاز الوطني للثورة الأكثر تراجيدية وعطاء في القرن الآفل، لكن علينا أن نعترف أيضاً بما تحقق في النهاية على الأرض وبحصيلة ما راكمه الطرفان: السياسي والثقافي.
ففي حين فشل المستوى السياسي الفلسطيني في السنوات الأخيرة في تنظيم أجيال عديدة من الشباب لصالح فكرته المترددة وخياره الذي انتابته التحولات في غير مرحلة، ومِفصل، استطاعت دواوين الشاعر أن تحشد لفلسطين شعباً كاملاً احتياطياً من مواطنيها في المنافي، الذين لم يروها إلا من خلال قصائده، القصائد التي جعلت من «فلسطين» مرضاً شديد العدوى تتناقله الأجيال على تعاقبها.
وحين أصاب الفلسطينيين، والعرب، يأس فادح من تحقق فلسطينهم الكلاسيكية على الأرض، استطاع «محمود درويش» خلق فلسطين ثانية جديدةً لهم، قوامها الوعد والحلم الخلّبي والعناد الجميل الذي جعل اللاجئ المنفيّ الذي لا يجرؤ أن يفكر بالعودة الى نابلس يحلم بعد أمسية من الشعر بالعودة الممكنة الى الجليل.
وهو الذي أمكنه بقدرة ساحر أن يدفع العجائز السبعينيات الى حجز مقاعدهن في «قصر الثقافة» ليجلسن بجوار «كمال ابوديب» و«خيري منصور» و«طاهر رياض»، ينتظرن طلّته البهية، يدخل بخيلاء كأنّما يجرّ خلفه أمجاد الكنعانيين جميعاً، ويجلسن بأمومة مفرطة يسمعن قصيدة ما بعد الحداثة!
شقيق الفلسطينيين الكبير الذي صرخ أخيراً من فرط صبره: «أنا لست لي.. أنا لست لي..». كان يحاول أن يشرح بتواضعه وطبعه الحييّ لجمهور المصفقين أنه صار جزءاً من مقتنيات هذا الكون الثمينة، وأن له عائلة أخرى كبيرة يدعونا للتعرف إليها، معه.
وإذا كان الشعب الأكثر خبرةً بالموت والموتى قد ارتبك في تنظيم جنازة لائقةٍ للشاعرالعظيم، فإنه صار يليق إذاً بهذا الشاعر القادم لنا من العالم، أن نقرأه بلغة أكثر رحابة وفهما، في المعنى والمفردات، وألا نتكئ على لغة الهتاف في فهم قصائده، وأن نخرج قليلاً من فلسطينيتنا لنراه أوضح. ورغم حالة الشعور الدامع والعفيّ بالقومية، وبالشقيق يسند قلب القتيل، حين تطير مروحية أردنية كل قليل تنقل شهيداً أو شهيداً من ضفة النهر الى ضفته، ورغم وثوقي الحزين بأنها آخر المروحيات إذ لم يبق لنا من ننقله، فمازلت متيقناً أننا لسنا بحاجة الى أبطال، فالوطن العربي ماهر في إنتاجهم أكثر مما تصنع «الصين» من الساعات المقلّدة.. لكننا بحاجة الى مفكر وشاعر وفيلسوف بقامة «محمود درويش»، ذلك الذي صار الآن «كزهر اللوز أو أبعد».
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news