«بر دبي»

تذهب الكتابة الروائية عن المدن إلى أقصى طموح، فهي تحاول تأريخ الحياة، بوصفها سرداً مصوراً في أبسط تكثيف ممكن، ولذلك فهي كتابة محفوفة بالصعوبة والحذر. والأرجح أن ذلك يؤكد مقولة أن «الرواية بنت المدينة» لأنها توفر ذلك الاتساع اللغوي، وتلك التقاطعات القريبة والشرسة أيضاً بين الأمكنة وحكاياتها.

رواية «بر دبي» الصادرة حديثاً للكاتب والشاعر زياد عبدالله عن دار المدى للثقافة والنشر لا تتخلى عن ذلك الطموح في الاقتراب ببطء ودقة من مدينة سريعة مثل دبي، والكتابة عن مفاعيلها في الناس، وعن حضورها في حياتهم وأحلامهم اليومية. فهنا أشخاص من جنسيات متعددة، وثقافات، وانتكاسات بشر يتجادلون بإسهاب في ما يشبه ركاباً منهمكين في أحاديث عامة، وربما غير ضرورية في انتظار المحطة التالية.

يمكن مصادفة شخصيات زياد عبدالله يومياً، فهم بين عامل، ورجل متديّن، ومدير متنفّذ، وصحافية، وامرأة كانت مهندسة سكك حديدية، فتحولت إلى مهندسة في طرقات الليل، وليست أسماء مثل يوسف الرشيد وهدى مرتضى، ويوسف المشهداني ونورا سوى حكايات مركّزة عن خسارات، أو أبطال يعيشون أياماً عابرة على هامش مدينة تنتشر بقوة وسرعة في الرمال والأفق، وتتشكّل من ملامح مختلفة، وأحلام أكثر اختلافاً أيضاً.

في الرواية بلاد كثيرة. مثلما في دبي نحو 200 جنسية وثقافة. وكل شخصية قادمة، وبين يديها ماضيها وحلمها وخيبتها إلى مكان فسيح لكل هؤلاء، ويضيق بهم كذلك، كأنما يسعى إلى توثيق الحياة في زمن خاص، أو إلى تدوين موسوعة بشرية، وتبويبها بالأسماء والسحنات والأفكار.

في «بر دبي» تحضر الشوارع والفنادق والمطاعم ومواقع العمل وأماكن اللهو، والازدحام والطقس، لتكتب جدلاً خاصاً عن مدينة خاصة، وتلتقط صوراً عن قرب، وتضع المكان في إطار فني، يتصالح تماماً مع السياق الإنساني والاجتماعي في أشد تجلياته وضوحاً وعلانية.

في حدود ما أعرف، فإن «بر دبي» هي العمل الروائي الأول عن هذه المدينة التي تحظى بأوصاف وألقاب كثيرة في العالم، وتثير إعجاباً عن نموّها الهائل وانفتاحها، واحتفائها بالحرية الفردية، فضلاً عن كونها مركزاً متقدماً ومهماً للمال والأعمال في المنطقة، وموئلاً للعمالة والتجارة والسياحة.

ومن المهم أن تكون هناك رواية تتحدث في هذا المناخ وعنه، وتشكل فضاءً لحكاياته وبشره، بل إن ذلك يساهم في ملء فراغ كبير، ويضع دبي في فهرس الأعمال الإبداعية، وهو ما تحتاج إليه فعلاً، لتحتلّ موقعاً في نضوج المدن ونفوذها وسحرها، وتضيف إلى سمعتها وحداثتها وزناً حقيقياً، لا يقتصر على المديح والزهو، بقدر ما يشتبك معها، باعتبارها مكاناً حيوياً قابلاً للنقاش، بعيداً عن أنماط الدعاية والترويج التي تحيط الأمكنة بقداسة تحول بينها وبين النقد، وتُقصيها تالياً عن التطور.

دبي باتت مركزاً مؤثراً في الشرق الأوسط، وتستحق حضوراً حراً في الكتابة الإبداعية، فالأمكنة الحرة أكثر جاذبية، ورواية زياد عبدالله تتحرك ضمن هذه الرؤية تماماً.

baselraf@gmail.com

الأكثر مشاركة