صرخة ماركيز

يوسف ضمرة

 
في حفل توزيع جوائز الصحافة في المكسيك، أطلق الكاتب الكولومبي الشهير (غابرييل غارثيا ماركيز) صرخة حادة، ضمّنها شكواه من الصحافة المعاصرة، الخاضعة لسيطرة الاحتكارات الكبرى، التي تفرض توجهاتها ومواقفها على الصحافة والصحافيين. وأعلن ماركيز انحيازه إلى الصحافة الهادئة، بعيداً عن صحافة السرعة والتلفيق وعدم الإتقان.

 

واللافت بالنسبة لي، هو ما قاله ماركيز عن ندرة التحقيقات الصحافية المتميزة في هذه الأيام، حيث العثور على تحقيق كهذا يشبه العثور على جوهرة. وهو أمر لافت، لأننا كنا نظنه ظاهرة عربية فقط، حيث كتبت في هذه الزاوية قبل أشهر قليلة فقط ـ 19 أبريل 2008 ـ مقالة بعنوان (صحافة محنطة)، أشرت فيها إلى الصحافة الثقافية العربية..

 

السرعة والجهل وغياب التحقيقات الصحافية المتميزة.. إلخ. ولا أهدف هنا إلى مقارنة من أي نوع، كما قد يخيل إلى البعض، بمقدار ما أثارني هذا الرأي لماركيز، من حيث شيوع هذه الصحافة، ما يعني أن الصحافة العربية أصبحت تخضع لمعايير الصحافة العالمية، ابنة الشركات الكبرى، والحريصة على الربح المادي، من دون الاحتفاظ بذلك الاحترام التقليدي للعمل الصحافي ودوره في الحياة العامة.

 

 لقد أصبحنا نرى اليوم في الوطن العربي، هبوط كثير من الكتاب الصحافيين بمظلات سياسية واجتماعية ومالية في كثير من كبريات الصحف. وليس من قبيل المبالغة القول، إننا كثيراً ما نفاجأ بمقالات صحافية لأسماء لم نسمع بها من قبل، ونكتشف لاحقاً أن هذه الأسماء محسوبة على بعض أجهزة الدولة، أو بعض مراكز النفوذ فيها. هكذا تزحف الصحافة لملاقاة السلطتين السياسية والمالية. بل تُغذ السير بخطى حثيثة للارتماء أخيراً في أحضان هاتين السلطتين. ناهيك عن أن كثيراً من الصحافة العربية أُنشئت وأُسست لأجل خدمة بعض هذه الجهات، والتعبير عن مواقفها، وتسويقها بوصفها تمتلك الحقيقة المطلقة. في ظل هذه الأجواء والمناخات، فإن عملاً صحافياً مميزاً سيدخل إلى دائرة الندرة الكونية، طالما أصبح الصحافي مرتهناً إلى كثير من الامتيازات التي توفرها هذه الجهات المحتكرة.

 

وهذا لا يعني أننا نطالب بحرمان الصحافيين من حقوقهم، مقدار عنايتنا بضرورة الحفاظ على روح الصحافة، الموسومة بالشجاعة والجرأة والمغامرة، من دون خوف من فقدان امتيازات لا تصنع صحافياً أو تلغي آخر محروماً منها. وإذا كانت ثمة أزمة عالمية في الصحافة، كما بدا لنا من صرخة ماركيز، إلا أننا في الوطن العربي، لانزال نعاني من أمرين أساسيين: أولهما، تدخّل كثير من أجهزة الرقابة العربية في الصحافة، الأمر الذي يؤدي إلى رسم خرائط طرق للصحافة. وثانيهما، سيطرة عقلية الخوف عند الكثير من الصحافيين العرب.

 

وهو خوف نما في ظل سيطرة الأحكام العرفية في عدد من الدول العربية، وهيمنة الأسلوب البوليسي في التعامل مع الصحافة والصحافيين. وعلى الرغم من ظهور بعض المنابر الصحافية المتحررة ـ بنسب متفاوتة ـ من تلك الهيمنة المباشرة، إلا أنه لايزال ثمة ما يلزم للتحرر الحقيقي، وهو تحرير العقل الصحافي العربي من إرث الماضي الموسوم بالرعب والنفاق، إضافة إلى تطهير الصحافة ممّن يعتبرونها منصة للقفز إلى مواقع قوّة نافذة!      damra1953@yahoo.com

تويتر