«باب الحارة».. مدينة فاضلة مزيّفة
المسلسل يقدّم واقعاً فانتازياً معقماً لا تطاله المجاعات والأوبئة والفقر. إي بي ايه يمكن إبعاد صفة الحنين عن مسلسل «باب الحارة» الذي نشاهده الآن بجزء ثالث، لا بل إبعاد تلك الصفة عن أجزائه الثلاثة إن تعلق الأمر في العودة بالزمن لملاقاة الأخلاق الحميدة وزمن التكافل الاجتماعي المشرق الذي كانت تعيشه دمشق الصالحة هنا لأن تكون مجازاً للمنطقة العربية في زمن بهي مضى ولن يعود.
ليس الأمر في وارد تفنيد هذه الوردية التي أحيط بها البناء السياحي للعمل، والبيوت الدمشقية الباذخة التي وكما توحي «حارة الضبع» كانت تتيح لحلاق أو عطار أن يعيش في بيت على شيء من «قصر العظم»، على كل استشهد أبو عصام الآن ولا تجوز عليه إلا الرحمة، أو العصيان كما حملت لنا إحدى حلقات «بقعة الضوء» في جزئه السادس، وهي تصور لنا رغبة الانتقام الكبيرة التي سادت مجموعة من الشباب «الزعران» مقابل غياب تلك الشخصية في الجزء الثالث، إذ نشاهدهم يتنقلون بين بيت مؤلف العمل ومخرجه «افتراضياً» لإجبارهما على إعادته.
أبو عصام لن يعود، كما أن هذه الأسطر ليست في وارد مقاربة «باب الحارة» من باب الدقة التاريخية وما إلى هنالك، بل التعامل مع الظاهرة بحد ذاتها بعد إبعاد الحنين عنها وتثبيتها في واقع عربي معاش، له أن يشكل منبع النجاح الكبير الذي حققه ويحققه هذا العمل الدرامي، وهكذا يصير الحنين إلى زمن مضى نوعاً من الحلم، حلم العودة في الزمن.
ما تقدم مشروع ومتوافر بكثرة في الحياة العربية اليومية، في ظل انعدام كل ما يضع حداً لهذه العودة، والغياب الكامل لأية مشروعات سياسية واجتماعية أو حتى ثقافية تحتفي بدولة «المواطنة» بدل دولة «التمنن»، وتنتصر للقانون، وحقوق الإنسان، وغيرها من مفاهيم تعزز سلطة القانون في مواجهة الأعراف والتقاليد، مع حالة تراجع مذهلة في حقوق المرأة، وانتصار ساحق للذكورة الفجة، وتسيّد كامل للطائفية والعشائرية والقبلية، والاستعاضة عن السلطات المدنية بأخرى عسكرية أو دينية وغيرها مما يجعل ثقافة «تبويس الشوارب» آخر ما توصل إليه العالم العربي، واستخدام توصيف مثل «رجعية» أمر مستهجن كون «التقدمية» وإن كانت مزيفة قد خربت ما خربت في ما مضى.
وعليه يبرز «باب الحارة» كحل، فلسان الحال يقول «لقد كنا على أحسن ما يرام»، وهذا صحيح كما للمسلسل أن يقدم واقعاً «فانتازياً» معقماً لا تطاله المجاعات والأوبئة والفقر، وعلى إيقاع موازٍ لنكوص المواطن العربي إلى الالتصاق بالأقرب والأضيق كون الحكومات قد تخلت عنه تماماً، فهو ومع مرور الزمن يبحث عن «القبضاي» و«المختار» و«زعيم العشيرة» و«إمام الجامع» و«العطار» و«الكتاتيب» بعيداً عن المؤسسات الغائبة تماماً، يطمح لأن يكون هناك «قبضاي» ينصفه من وطأة الديكتاتورية ويحميه من الأجهزة الأمنية، وإمام يزوجه ويحل مشكلاته، مع تفضيل «الكتاتيب» على المؤسسات التعليمية المترهلة والكافرة في آن معاً، و«العطار» على المستشفيات الخاصة المتوحشة وتلك الحكومية المتآكلة، ومع انفتاح الكون على مصراعيه، فإن أم عصام (الست المحترمة والقوية والجميلة) خيار موفق وإن كان من غير المسموح لها أن تتعلم أو أن تخرج من البيت، فالمشاهد يرى على الشاشة واقعاً مغايراً، هذا يمتد ليشمل نساء باب الحارة جميعاً، يراهن سافرات ومحجبات وقادرات على تناول أي موضوع، والزواج يانصيب يخيب وينجح.
«باب الحارة» مدينة فاضلة مزيفة، دغدغة محكمة للشعور البشري الأبدي بأن «الماضي كان أفضل» وأن كلمة «فشر» كفيلة بتدمير العالم كما هي عبارة «وامعتصماه»، ولعل حاله حال أعمال درامية أخرى لها أن تنجح جماهيرياً مادامت لا تطمح إلاّ للتخدير. |
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news