بيوتات مرخصة
مع بداية الألفية الثالثة انطلقت بدعة تدجين الشعر والشعراء، ضمن «بيوتات» صارت فيما بعد مجرد حوزات ميتة لا تثير في النفس سوى ذكرى أن الشعراء العرب حطموا وحدة البيت الشعري في الثلث الأول من القرن الماضي، وها هم الآن ينتمون الى بيت حجري ربما يتطوّر فجأة ويقدم الوجبات التقليدية والملابس، في سعيه لاحتواء الداخلين إليه من الذين شبّه لهم أن الابداع قد يكون جمعيا أو ابن مؤسسة مرخصة.
نعلم أن بيوتات الشعر العربية صناعة رسمية غائية، لا يدخلها إلا من كان نظيفا بالمعنى السياسي لا الأمني أو الجثماني، ويملك اسما ثلاثيا من غير شائبة، ومحل سكن وبطاقة أحوال تقول الانتماء إلى جهة وتصرّ عليه من غير معارضة. كما نعلم أيضاً أن برنامج هذه «البيوتات» لا يقرّ إلا ضمن صيغة احتفالية تعيد الاعتبار إلى من فقدوه، أو إلى من هم في الطريق الى فقدانه، وأن «الشاعر» في هذه «البيوتات» مجرد مهرّج مصبوغ الوجه، وربما بذيل يهتز وهو يحاول ترميم المشهد متناسيا شكله ولسانه وهو يتحدث بلسان المجموع.
ومع رؤية هذه الحال المضحكة المبكية، نرى ايضا كيف يساق الشعر مخفورا إلى حجرات ليست له، وكيف يشارك في مناسبات شتى تأخذ منه برية ابداعه ـ هذا إذا كانت له برية ابداع يمكن أن ترى تحت هذا السقف الواطئ الذي حشر فيه بلا مطالع أو نجوم. وعلى ذكر النجوم نرى أن شعراء «البيوتات» قد استقرّ في نفوسهم أن الشعر صلة وجائزة وراحوا يتمثلون الشاعر القديم ويتقصدون قرض الشعر قصدا ويدخلون في بهو الاحتفالات معطرين وعليهم ثياب نظاف، متناسين تماما أن الاشعار تحترم لنبل قائلها ومتناسين ايضا أن امرأ القيس جدهم ـ وهو ابن ملك كنده ـ عاند أباه وفضل الشعر على ملكه فطرده من «البيت».
نحن في الألفية الثالثة الآن ونتحدث عن شاعر قديم بلا بيت، بمعنى انه بلا مؤسسة وبلا جهة وبلا أب يمكن أن يقال عنه: فلما قرئ عليه الشعر رق وحن وبكى حتى بلل صدرهو وقال: هلم الى البيت. فالبيت المقصود هنا هو الشعر الذي فضله على سواه وكأنه بذلك قد تمثل عبارة جورج اليوت: «دعونا دائما نجعل الناس مستعدين لإعطاء المجهودات الوجدانية في حياتهم التمثيل المخلص» وعمل بها قبل أن تقال بعدة قرون.
لا أعرف كيف ألمّ بأحوال «شعراء البيوتات» دفعة واحدة ولكنني أعرف أنه لم يعد ممكنا أمام الوعي الجديد لعلاقة الشاعر بالعالم وروابطه الميتافيزيقية، رؤية شاعر وهو متوكئ على بيت الفراغ وينشد في هذه المؤسسة أو تلك لكي يقال له: نحن نكافئ بالتي هي أحسن. وأمام هذه المراوغة التي قد تظل سارية المفعول عند العرب على وجه الخصوص، لا بد من القول وبلغة وعظية لا بأس بها الآن: أيها الشاعر كن هائماً حراً ... لا تقرّ... ولا تستقرّ وضيّع الدرب الى القبح أو البيت.
zeyad_alanani@yahoo.com
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news