فقه العشر الأواخر من رمضان

 

للعشر الأواخر من رمضان فقه خاص في الإسلام؛ لما لها من مزيد الفضل والمكانة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعاً وعشرين لم يذق غمضاً وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان، طوى فراشه، واعتزل النساء، وجعل عشاءه سحوراً، وتقول السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، وذلك لأن فيها من الفضل ما لا يوجد في بقية الشهر، فإن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، أي أن العبادة والأعمال الصالحة فيها خير من العبادة في هذه المدة الطويلة التي لا يكاد يعمرها الإنسان فضلاً عن أن يوفق ذلك العمر كله في طاعة الله تعالى، وقد قيل: إن بعض الأمم السابقة كان يعمر مثل ذلك، فلما كان أعمار هذه الأمة من الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك، عوضها الله تعالى بليلة واحدة، يكون الأجر فيها بقدر ذلك العمر المديد، إكراماً لنبيها صلى الله عليه وسلم الذي تقل أعمار أمته، وساءه سبق الأمم بالأجر لطول أعمار من تعمّر منها، فأكرم الله تعالى أمته  بليلة هي خير من ذلك كله، وخصها بهذا الفضل، فجعلها  أكثر أجراً، وإن كانت أقل عملاً، كما بين ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثلكم ومثل أهل الكتابين، كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم»  فغضبت اليهود، والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملاً، وأقل عطاءً؟ قال: «هل نقصتكم من حقكم؟» قالوا: لا، قال : «فذلك، فضلي أوتيه من أشاء». أخرجه البخاري، وقد كان من فضل الله تعالى على هذه الأمة هذه الليلة المباركة التي تنزّل فيها القرآن، فمن أقامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يحرص ذلك الحرص على تحريها بإحيائها بالعبادة، وأخلص ما تكون العبادة وأصفاها، أن يتبتل المرء لربه، وينقطع عن الخلق وذلك بالاعتكاف في المسجد، معتزلاً شهواته وحظوظه النفسية التي أباحه الله تعالى في ليلة الصيام، طلباً لما هو أغلى وأعلى مكاناً ومقاماً، وتفضيلاً لما يبقى على ما يفنى، وللآخرة على العاجلة، فلا تفوته لحظة من وقته في غير طاعة الله تعالى، فهو في نهاره صائم وفي ليله قائم، فهكذا يكون المسلم الحريص على نفسه، يسابق إليها بجده واجتهاده، ليدرك ليلة القدر، ليسعد سعادة كبيرة، لعلها تكون عنوان خاتمته السعيدة، فعلى المسلم الحريص على دينه ونفع نفسه أن يهتم بها اهتماماً غير عادي، تأسياً بنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان ذلك اجتهاده ليعلم أمته الحرص على دينهم وآخرتهم، ولا ريب فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو حريص عليهم أشد من حرصهم على ذواتهم، فصلى الله وسلم وبارك عليه ورزقنا كمال متابعته والتأسي به. 

 

 والله ولي التوفيق

 

* كبير مفتين، مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية

 

تويتر