الجزائر تخرج من أرشـيف القتـل
مشهد من فيلم رشيد بوشارب «بلديون». آوت ناو
عملية استعادة أرشيف من الصور والوثائق والذكريات أمر طبيعي وحاضر باستمرار، بوصف السينما ذاكرة بصرية وعلى شيء من البداهة، لكن التعامل مع مفهوم «الأرشيف» كما طرحه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو وارتباطه بمفهوم الخطاب أمر آخر، ومساحة للمضي خلف ما يمكن أن تكون عليه مفاهيم مطروحة في الحاضر لها أن تكون بشكل أو آخر فعل استعادة لمفاهيم تسيدت الماضي القريب أو البعيد.
يحضر ما تقدم بقوة باستعادة فيلم مثل «معركة الجزائر» للمخرج الايطالي جيلو بونتيكرفو 1966 حين يسأل أحد قياديي «جبهة التحرير» في مؤتمر صحافي وبعد اعتقاله «أليس من الجبن أن ترسلوا نساءكم محملات بالقنابل لقتل الأبرياء؟»، ليجيب «أليس من الجبن أن تقصفوا شعبنا بالنابالم؟» ويضيف «أعطونا طائراتكم وسنعطيكم نساءنا وما يحملن في حقائبهن». لهذا الحوار المجتزأ أن يضيء ما يعيد نفسه حالياً، وليمتد أمر «أرشيف» فوكو إلى فيلمين آخرين اقتربا من الجزائر، وأقصد هنا فيلم رشيد بوشارب البديع «بلديون» وفيلم «العدو الحميم» لفلوران اميليو سيري. يفتح بوشارب أرشيف ما قدمه الجندي الجزائري لفرنسا في حرب تحريرها من الاحتلال النازي، كيف قاتلوا حتى الرمق الأخير لتحرير فرنسا، وكيف ماتوا على أرضها، وكانوا من أوائل الطلائع المحررة.
طبعاً فيلم بوشارب يقترب من عالم هؤلاء الجنود بحنكة، وبمقاربة للعلاقة الملتبسة مع مرؤوسيهم ونضالهم المرير للتعامل معهم كجنود فرنسيين، وتقديمهم في النهاية حياتهم دون مقابل سوى طموحهم الذي مات معهم وهم يتطلعون لعيش أفضل في فرنسا، مع تمايز كل شخصية عن أخرى والتقائهم على نشأة متقاربة.
فيلم «بلديون» يتحرك في مساحة يلتبس فيها كل شيء، فالجنود مستعمرون من قبل الجيش الذي يقاتلون في صفوفه، وعدوهم عدوه، لكن يمكن في أية لحظة أن يداهمهم شعور بأن الجيش الذي هم في صفوفه هو عدوهم، كما أنهم أبطال وضحايا في الوقت نفسه، من خلفيات ثقافية مغايرة، كما يمكن وصفهم بالمرتزقة لكن بصفات أخلاقية سامية، والكثير من المتناقضات التي تشعر السرجنت عبدالقادر بأن رفاقه دفعوا دماءهم ثمناً للا شيء إلا كلمة «ميرسي»، لا بل إن معالم وجهه وهو يتلقى الشكر من سكان القرية الفرنسية التي مات فيها رفاقه وهم يقاتلون كتيبة ألمانية كاملة، وبشراسة رغم عددهم الذي لا يتجاوز الأربعة، تفضح شعوره بالعبث والخسارة، ومع الانتقال إلى عام 2003 نجده يعاني الفقر، لا بل إن رواتبه التقاعدية توقفت منذ عام 1956 ولتعاد إليه في .2003
ومن زاوية أخرى يحضر فيلم الفرنسي الثاني انتاج العام الماضي وحمل عنوان «العدو الحميم» ولعله في هذا الفيلم فضح وبفنية عالية الممارسات الفرنسية في الجزائر مع نقاط التقاء كثيرة مع الفيلمين سابقي الذكر.
علينا أولا مع فيلم سيري أن نؤكد حقيقة ساطعة ألا وهي أن رصد القتل الذي لا يفارق الفيلم يتم من خلال الملازم الفرنسي ثيربان (بنوا ماجيميل) الذي تكون مثاليته والأسئلة الكثيرة التي يطرحها على نفسه ومن حوله مدعاة للتدقيق أكثر، لا بل إن أسئلة ثيربان تدفعه لاستنتاج أن ما تفعله المقاومة الجزائرية بالقوات الفرنسية أمر طبيعي، معتمدا في ذلك على المقاومة الفرنسية في وجه القوات النازية، وأنهم فعلوا الشيء نفسه، وليكون العدو حميما فإن في فصيلة الملازم جنودا جزائريين يقاتلون بإخلاص وتفان معه ضد المقاومة الجزائرية، وضمن صفوف المقاومة مقاتلون سبق وقاتلوا مع الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية وغيرها من الحروب، وليتحول الأمر وبنظرة شاملة إلى أن العدو في داخل كل واحد من المتصارعين.
ما من قصة لتروى في الفيلم، بل كابوس طويل تجسده شخصيات استثنائية قلقة على طريقة العقيد كرتيز في «القيامة الآن» تعيش في مرتفعات جبلية جرداء وغابات كثيفة، إضافة إلى همٍ توثيقي تمثل بتصوير الفظاعات التي أقدمت عليها القوات الفرنسية في الجزائر، مثل مشهد قصف المقاومين بالقنابل الحارقة «النابالم» وكيف تتقدم القوات الفرنسية بين الجثث المتفحمة الأشبه بالتماثيل السود، ومع تصاعد القتل والقتل المضاد نشهد أيضا مجزرة تقدم عليها القوات الفرنسية ضد سكان قرية أبرياء، تأسر من يملك معلومات وتخضعه لتعذيب وحشي، وتقتل كل من في القرية من أطفال ونساء وشيوخ. كل ما تقدم خارج من أرشيف هائل ما خفي فيه أعظم، تستدعيه مآزق كثيرة تتسيد علاقة المستعمَر بالمستعمِر القديم، ولعل الخطاب الذي يشكله يتكون من نقاط التقاء كثيرة بين الأفلام الثلاثة.
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news