«الساطور».. بشر من ورق ودم

كوستا غافراس مع الممثل جوش غارسيا أثناء تصوير «الساطور».     آوت ناو


ليس الحديث هنا عن فيلم مشوّق على الرغم من أنه كذلك، ولا تعقب أحداثه إلا نهاية مفاجئة لها أن تأتي بالدهشة التي سرعان ما تنقضي وتتبدد بمجرد الانتهاء من مشاهدة الفيلم، الأمر يتعدى ذلك إلى ما له أن يكون مقولة ومجازاً في قالب تشويقي، وعلى شيء من الرسائل التي لا يمكن لمخرج مثل كوستا غافراس أن يرسلها في البريد، في إحالة إلى مقولة الفريد هيتشكوك الشهيرة التي يتهكم فيها على الفيلم الذي يحمل رسالة قائلاً حينها «أما الرسائل فيمكن إرسالها بواسطة البريد». لا يمتلك المخرج اليوناني كوستا غافراس أي صندوق بريد سوى أفلامه، والتي أودع فيها رسائل وصل الكثير منها على شيء من التوثيق والهجاء والصراخ، ويكفي أن نستعيد هنا فيلمه الشهير «حنا كاف» 1981 ودعوة سليم (محمد بكري) ضد الاسرائيليين الذين سلبوه بيت أهله، لنستدعي شيئاً مما حملته أفلامه اليسارية وانغماسه بقضايا الإنسان أينما كان.

 

نعود إلى آخر ما أخرجه غافراس والذي بدأنا في التقديم له. يحمل الفيلم عنوان Le Couperet (الساطور) وقد انتج منذ عامين وجاء على شيء مما له أن يكون بامتياز هجائية محكمة لآليات العمل في المجتمع الرأسمالي، وتغوّل الشركات الكبرى وتوحشها، وما تفرزه من أنماط عيش.

 

تبدو حكاية الفيلم من بعيد بسيطة، وعلى شيء من أفلام «القاتل المتسلسل» الذي تتشكل دوافعه تحت مظلة هذه الشركات، وفي منعطف درامي وحيد يتمثل بفقدان برونو (جوش غارسيا) لعمله المتمثل بكونه مدير معمل للأوراق، إذ تكون لعنة ما طال ويطال العمال والموظفين من عمليات إعادة الهيكلة والتنظيم و«الأتمتة» قد طالته كما تطال واقعياً آلاف العمال،  فنادراً ما تخلو الأخبار من خبر مفاده إقدام الشركة الفلانية على  تسريح 5000 موظف، وتلك لـ1000 وليكون السؤال الفني والجمالي هنا، ما الذي حلّ بهؤلاء، ما الذي صارت عليه حياتهم وعلى صعد عدة، وليكون الأمر أكثر تشعباً فإن مصير عاطل عن العمل الذي يصير إليه رب أسرة يطال كل فرد من أفراد عائلته، ولتتسع الدائرة وعلى شيء من التسلسل المنطقي فإن الأمر يمتد ليشمل كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في نطاق دائرة تتسع كلما ازداد عدد العاطلين عن العمل.

 

في هذا الإطار، يتحرك فيلم «الساطور»، ومن خلال إضاءة ما توصل إليه برونو تحت وطأة العطالة، من دون أن يمنحنا الفيلم فرصة لاكتشاف ذلك، فهو يبدأ من منتصف حكاية برونو، حيث نشاهده يقدم على محاولة قتل أحدهم بواسطة مسدس ألماني قديم، وحين يفشل، يسعى إلى دهسه بسيارته، وليتضح بعد ذلك ما يقوم به، إنه وببساطة يقتل كل من منافسيه في فرص العمل المتاحة أمامه وتحديداً في مجال صناعة الورق، يضع إعلاناً في الجريدة ويتلقى مئات السير الذاتية «سي في»، يغربلها، ويخرج بنتيجة مفادها أن ما يقرب الستة أشخاص هم منافسوه الحقيقيون في الحصول على عمل، فيقرر قتلهم، وقتل مدير إحدى شركات صناعة الأوراق الناجحة، ولينتهي الفيلم وقد حقق برونو مراده، قتل كل منافسيه ومن يتفوقون عليه في منجزاتهم كما توضح سيرتهم الذاتية، وفي النهاية قتل مدير تلك الشركة، وبالتالي حين يصبح منصبه شاغراً فإنه الوحيد المؤهل للحلول محله.

 

في بعض الملاحقات التي قام بها برونو لضحـــاياه يحتك بهم ويتبادل الحديث معهـــم في إضاءة لحجم الكارثة التي يعـــاني منها كل على طريقته، وصولاً إلى أحــد منافسيه الذي يعمل في أحد محال الألبسة وقـــد هجرته زوجــته وأولاده، ولنعرف بعـــد ذلك بأنه قام بشـــنق نفسه، ولتعتبره الشرطة هو المســؤول عن جــرائم قتــل العاملين في مجال الورق.

 

 

يحمل فيلم غافراس مساحة كبيرة من التأويلات والمقولات التي تمضي جنباً إلى جنب مع لمسة كوميدية خفيفة، إذ يمكن القول إن البشر صاروا من ورق، صناعة من ورق، ومصائر يقررها الورق، وأنت لا تساوي في هذا العالم الرأسمالي المتوحش سوى ورقة سيرتك الذاتية، كما أن الجميع وإن لم يفعلوا جاهزون لقتل من يعترض مصالحهم، كون الرأسمالية قائمة أولاً وأخيراً على التنافسية، تنافسية القتل كما يريد غافراس أن يقول، الشركة تقتل الشركة الأخرى، فلمَ لا يقتل البشر بعضهم بعضاً في إطار استشراء التنافس وتوحشه، لمَ لا يكون برونو تكثيفاً حاداً لانتصار رأس المال على كل قيمة أخرى.

 

 

الأكثر مشاركة