الاعتبار بأثر رجعي
تُحدث الكثير من الأعمال الإبداعية والعلمية لحظة الكشف عنها وإعلانها، مايشبه الفعل الزلزالي في المنظومات الاجتماعية السائدة، وفي الأعراف الراسخة لهذا المجتمع الانساني أو ذاك. ذلك أن الكتابة التي أكدت عبر تاريخها الانساني الطويل، أنها الوحيدة التي تستطيع أن تلج الى آماد تظل مضببة والرؤية فيها محجوبة. وهي الوحيدة التي تغامر بإهدار دم صاحبها، من أجل الاضاءة على تلك الآماد، وإدخالها في فضيحة المشاهدة.
وكثيرة هي الأعمال الإبداعية التي واجهت وحين طبعت العديد من الاستنكارات الاجتماعية التي كادت أن تودي بأصحابها الى التهلكة. لكن الغريب في هذه المسالة أن معظم الأعمال التي طالها مقص الرقيب الاجتماعي او الحكومي، أو ألقي القبض على اصحابها وزُجوا في السجون، عادت وبعد مرور الزمن، كي تتألق من جديد، ويعاد الاعتبار لها، فيما يشبه إعادة الاعتبار بأثر رجعي. فالقصائد التي كان قد كتبها الشاعر الروماني القديم «أوفيد» في كتابه الذائع الصيت «فن الهوى» قبل الميلاد بعام واحد، في زمن تألق حضارة روما، استطاعت أن تودي بهذا الشاعر في غياهب السجون، وتنفيه الى منطقة «نومي»، وبرغم التوسلات العديدة، فإن الامبراطور «أوغسطس»رفض العفو عن أوفيد.
لكن قصائد أوفيد أعيد لها الاعتبار العالمي، حينما تحولت الى درس شعري في فن الحب والغزل عند كل العشاق . وفي الوقت الذي تعرض فيه الكاتب الأميركي والروسي الاصل «فلاديمير نابوكوف» إلى أقذع الاتهامات التي أشارت الى شذوذه، حينما كتب روايته الشهيرة «لوليتا» نلحظ أن دور النشر العالمية تلهث الآن للحصول على حقوق نشر مسودة رواية عنوانها «اصل لورا: الموت لعبة». هذه الرواية التي أودعتها زوجته في أحد البنوك السويسرية، تحولت الى تركة عند ابنه «ديمتري نابوكوف»،جعلته يذهب الى دار نشر ألمانية كي يتفق معها على نشر هذه الرواية، ليحدث ضجة اعادة الاعتبار العالمي من جديد للكاتب «نابوكوف» .
وفي الاطار ذاته فقد تعرض الشاعر الفرنسي«بودلير» حينما كتب ديوانه الشعري «أزهار الشر» إلى أقسى حالات القمع والمصادرة، وقال أحد النقاد حال صدور ديوانه«يخيّل للمرء أحيانا أن بودلير يعاني من لوثة عقلية. وتبدو عقدته هذه احيانا بجلاء بحيث يتيقن المرء من ذلك. فهو يكرر الكلمات نفسها بشكل يبعث على الملل، ويكرر الافكار الشاذة نفسها؛ القذارة والبذاءة والحقارة تصطف جنبا الى جنب». وقد كانت هذه الاشارة النقدية كافية لإحالة بودلير وديوانه الى المحكمة. لكن المباغت والمدهش، وفي سياق اعادة الاعتبار، ان يتحول ديوان «أزهار الشر» عند شعراء فرنسا والعالم الى مايشبه المحج الشعري، وإلى اعتباره نقلة حقيقية في تاريخ الشعر العالمي. نقلة استطاعت أن تترك اثرها اللاحق في الشعر العالمي بمجمله.
وعربيا يمكن اعتبار كتاب الدكتور طه حسين «في الشعر الجاهلي» وانتحالاته يقع في هذا الاطار أيضا. فقد حورب طه حسين حين اصدر هذا الكتاب الى درجة التهديد بطرده من الجامعة أو الاعتذار عن هذا الكتاب. لكن كتاب طه حسين تحول لاحقا الى ضرورة قرائية عند كل قارئ او كاتب عربي. انها المغامرة الابدية التي يقترفها المبدع حين يلج الممنوع في كل وقت كي يدفع أحيانا راسه ثمنا لهذه المغامرة. لكن اعادة الاعتبار ولو باثر رجعي سرعان ما يجيء كي يقلده وسام الكتابة المتميزة من جديد. khaleilq@yahoo.com
|
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news