«ألف ليلة وليلة».. وردة الحواس المتفتّحة

بازوليني بالألوان الزيتية.                  أرشيفية


للعودة إلى أفلام بير بابلو بازوليني شيء من اللذة، وللارتداد إليه دعوة لقطف أكثر ما يمكن أن تتسع له الحواس من جمال، إنه شيء من التطرف مع هذا المخرج الإيطالي، والانحياز التام لما قدمه في عمره الذي لم يتجاوز الـ50 إلا بثلاث سنوات حيث قضى قتلاً، إنه الشاعر والروائي والسينمائي والسياسي اليساري، القلق كأن الريح تحته، القادر على أن يقول ما لا يقال، ويصور ما لا يصور في جنوح عجيب إلى الحرية بكل أشكالها.

 

العودة إلى بازوليني لا حاجة لها لمبررات، إنها حاضرة دائماً، وإن كان سبق أن قدمت على هذه الصفحة لفيلمين من ثلاثيته التي عرفت بـ«ثلاثية الحياة»، ها هي تستكمل هنا بثالث أفلامها وهو «ألف ليلة وليلة» أو «وردة ألف ليلة وليلة»، وعلى شيء من استكمال «حديقة الملذات الدنيوية» واحتفالية بازوليني بثلاثة أعمال هي من كلاسيكات وأمهات الأدب القصصي، بدأها مع «الديكاميرون» 1971 لجيوفاني بوكاشيو الذي يحمل 100 قصة يحكيها في 10 أيام سبع سيدات وثلاثة شبان، وليحول  بازوليني ما يقرب من 10 حكايا من حكايات الديكاميرون إلى فيلم ليس له أن يكون إلا احتفالية مدهشة بالحياة، مضاعفاً من سحرها عبر تجسيدها بصرياً، وبالإيقاع المعروف لهذا الأسطورة السينمائية، ولتكون النتيجة فيلماً يمتزج فيه الخداع بالبراءة، والسذاجة مع الخيانة، وشخصيات تحمل كل تناقضات البشر، إضافة إلى نقل هجائية بوكاشيو لرجال الدين، ومفاهيم الخطيئة والفضيلة إلى مستويات أشد وقعاً، ذلك أن الأداة هنا هي الصورة السينمائية المحنكة.

 

يأتي بازوليني بعد ذلك إلى «كونتربري تيلز» (حكايا كونتربري) 1972 العمل الأدبي الضخم الذي كتبه جيوفر تشوسر في القرن 14 وتحديداً عام 1380، والذي يعد إلى جانب «الديكاميرون» التراث القصصي الأهم في نهايات العصور الوسطى الأوروبية، ولينهي بازوليني تلك الثلاثية بفيلم «ألف ليلة وليلة» 1974 «جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كان» وليكون بذلك قدّم بحق «ثلاثية حياة» باعتبارها اسماً على مسمى، وبالاتكاء على ثلاثة أعمال قصصية تعتبر خالدة على مر الأزمان.

 

«ألف ليلة وليلة» مع بازوليني تمضي بعيداً عن «علي بابا والأربعين حرامي»، والسندباد، وكل تلك القصص التي أريد لها أن تختزل عوالم هذا العمل اللامتناهي، إنه يمضي مباشرة نحو جوهرها الحسي و«الايروتيكي»، يأخذ قضمة كبيرة منها، أو يضرب فيها عميقاً، حريصاً كل الحرص على متاهات سرد شهرزاد، والصيغة التوالدية للقصص، مقدماً للفيلم بـ «لا تكمن الحقيقة في حلم واحد بل في أحلام متعددة»، وليبدأ مع الجارية زمرد وقصته مع نور الدين وينتهي بها، ولنكون بين الأقدار التي تبعد زمرد عن نور الدين ولقائهما مجدداً في النهاية أمام عشرات القصص والمصائر وعلى طريقة السرد الشهرزادي.

 

يمكن اعتبار الجسد الكلمة المفتاح في فيلم بازوليني، الجسد على خلفية مشهدية مدهشة، لها أن تأخذ من كل سحرية أجواء ألف ليلة وليلة مجالاً حيوياً للاحتفاء به عارياً ومتوهجاً بحواسه فقط، لا بل إن الشعور الأكيد الذي سيرافق من يشاهد الفيلم أنه يمشي في الأحلام التي ستجتمع في النهاية على بناء الحقيقة الحسية الوحيدة التي تضيئها القصص، إنه عالم من المتاهات، من متاهات الجسد والحب، ويمكن لسهم «كيوبيد» في اللقطة الشهيرة من الفيلم أن يصوب إلى الأعضاء الحميمة لا على القلب، كما أن الفتاة التي يحتجزها العفريت جاهزة لأن تموت مقابل ليلة لذة واحدة، لا بل إنها تستقبل تقطيع أعضائها على يد العفريت وكل ما يشغلها الحب، وعيناها ساهمتان في حبيبها الذي سيمسخه العفريت إلى قرد.

 

وفي رحلة بحث نور الدين عن زمرد يقع في أفخاخ كثيرة من اللذة، بينما تصبح زمرد ملكاً كونها أول قادم إلى المدينة من الصحراء. يمر الفيلم على قصة العاشق عزيز الذي يهجر حبيبته عزيزة في ليلة زواجه منها لوقوعه في حب امرأة أخرى، ولتبقى عزيزة في خدمته ليستكمل هذا الحب وتضحي بكل شيء وتلعب دور الناصحة له لما عليه فعله مع المرأة الأخرى، مقابل فرحه وشهوته المصوّبة على امرأة أخرى.

 

لن نستعيد هنا كل القصص التي قدمها بازوليني من ألف ليلة وليلة، لكن يجب التأكيد على المتعة البصرية التي يقدمها والمتفوقة على ما قدمه في «الديكاميرون» و«حكايا كونتربري»، وحرصه المدهش على العالم الحلم الذي بناه دون أن يتخلى عن قراءة مكانية وجغرافية للشرق الذي يشكل مسرح فيلمه، فقد قام بازوليني بتصوير هذا الفيلم في إثيويبا واليمن وإيران ونيبال، وليس لنا أن نصفه هنا إلا بختام المسك لثلاثية الحياة.

 

تويتر