راية القلب

زياد العناني

 

كنا نسمع في قصائد أيام زمان ذلك الصوت الإنساني الذي يدور دائما حول عاشق غاب وبدل حبيبته بوهم بطولة أو ضاع في أصقاع العالم، وكنا نسمع ايضا عن ضجة الجسد الساخن المملوء بالافارقة خصوصا في قصائد النصف الثاني من القرن الماضي. كانت تجلية الحاضر تتم بعافية الحب المستثمرة في صوت الشاعر أو الشاعرة. وكانت المناجاة همساً وبوحاً تعلن عن نفس حية ترشح ماء وعطراً وتتقافز فيها الهفوات والأمزجة. أما قصائد اليوم وحتى الغنائية منها، فهي مكتظة بشواهد أخرى قد تكون جمالية، ولكنها تترفع على عاطفة الإنسان وحاجاته الروحية وتذهب بعيدا في رصف الأفكارالباردة.

 

ما الذي حدث بالضبط؟ولماذا صارت القصائد تذكرنا بعبارة فرناندو بيسو وبرودتها التي تقول: «كم تنزهنا معا من دون حب» ؟ أو مقسمة ما بين تقديس الأشياء الكبرى وتدنيسها، حتى عند الشعراء من أصحاب التجارب الراسخة الذين راحوا يتوغلون في تضاريس الجسد وحرارته الحسية، اضافة الى احتدامات الأعضاء من خلال حشرها وزجها في رحلة مكابدات صوفية مكللة بالغموض ومصابة باللعثمة. هل أصبح الآن كسر النسق الشعري يقدم شهادته «بلا نفس» وبلا قلب وبلا ضلوع، لكي يتجمهر فقط في منطقة الحواس إثارة وإضاءة حمراء وتقويضا لجلسة عاشقين يبلل جسديهما الخوف والعرق.

 

ربما كان علينا أن نهتم بالجسد من دون أن ننسى ثنائيته العاطفية، وربما كانت التصورات الكلانية التي وضعت للنص المعاصر قد كبلت في مناطق محددة. كم مجموعة شعرية انشغلت بسؤال الهوية! وكم مجموعة حملت صيغة الاغتراب! وكم من شاعر ظل على حافة اللغة! وكم من شاعر راح يتهجّى المدينة وأزقتها! أما شعراء القلب في يأسهم الخلاق وفي دموعهم التي تبلل الصدور، فقد غابوا مع الأسف عن المشهد دفعة واحدة، وكأن المرأة التي هي مركز الكون عندهم، قد غابت ايضا تحت الطاولة.

 

لا نريد أن نقول للشعراء المنشــغلين بالتلافيف الكونية إن الشعر الآن غليظ القلب، ولا نريد أن يقال إن الحـــديث عن العاطفة في هذا الوقت يعدّ ضربا من الرخاء، ولكننا نريد وبكل تأكيد أن يكون الشخص الإنساني كاملا وحيا في بعض القصائد التي تحاول احتضان الحياة، وذلك لأن  هذا الشحص  ليس كائنا افتراضيا أو مجرد رغبة ملحة تستعمل في ساعة محددة، حتى من دون أن ترافقها بعض العواطف المنطفئة.  ومن هنا لابد من ملء الفراغ العاطفي ورفع راية القلب، أمام قسوة العصر وقلة الونس والنزعات الاستهلاكية المدمرة، وهذه ليست دعوة الى الموافقة على سيولة التهويمات الوجدانة كيفما اتفق. كما انها ليس دعوة إلى نسيان القصائد التي تصغي إلى التاريخ أو التي تسير مع المعنى، أو حتى تلك  التي تحاول استدعاء البطولات المحتسبة، بقدر ما هي دعوة مستمدة من ذلك الاقتراح الجمالي الكلي الذي يجب أن يقدم لأعماقنا جهة يانعة ودفاتر ذكرى، وتجليات دم في العروق، تحـرج هذا التصحر الذي يقلص من نفوذ الشعر ويطرحه في بعض الأحيان في منطقة الغائب الذي لن يؤرب.


zeyad_alanani@yahoo.com

 

تويتر