المنتحر الغامض

عند متابعتي لمواقع التواصل الاجتماعية، الخاصة بجهاز شرطة دبي، كثيراً ما تستوقفني النصائح الأمنية المسداة والمهداة إلى جميع شرائح المجتمع، بهدف رفع مستوى الثقافة الأمنية والمرورية لديهم، ومن هذه النصائح تلك الموجهة إلى القطاعين التجاري والمصرفي، وما يجب أن يكون عليه «التاجر الشاطر»، كما يقول المثل، ومن أهم هذه النصائح: أن يقوم صاحب المال بعمل جرد دوري على عهدة المحاسبين والصرافين، الذين يعملون تحت إمرته (يومياً، أسبوعياً، شهرياً)، المهم ألا يهمل هذا الجانب الوقائي، حتى لا يجد نفسه مفلساً على الحديدة، كما يقال.

رجعت بالذاكرة إلى سنة 1993، عندما تخرجت في الأكاديمية، وعملت في مركز شرطة نايف مساعداً للضابط المناوب، عندها تلقيت بلاغاً من غرفة العمليات، مفاده إقدام شخص آسيوي على الانتحار شنقاً داخل شقته الفاخرة، المطلة على خور دبي، وعلى الفور انتقلت إلى مكان الحادث، لمعاينة مسرح الجريمة، والتأكد من أن التحقيق يجري في مساره الصحيح، ولفت انتباهي المستوى الراقي، الذي يعيش فيه الرجل، ومنظر السفن والعبارات، تروح وتغدو بين ضفتي الخور محملة بالركاب، ولم يقطع مرحلة التأمل تلك إلا منظر طاولة الطعام، التي تناول عليها المنتحر فطوره الأخير، والمكون من البيض والجبن ورقائق الذرة والحليب الطازج والخبز الأسمر، والأغرب تناوله دواء ضغط الدم الذي يعانيه منذ فترة طويلة.

ولاحظت بجانب علبة الدواء رسالة مطوية بعناية، كتبت بلغة إنجليزية وبخط جميل مرتب، بدأها صاحبنا باعتذار رقيق موجه إلى عائلته على ما سيقدم عليه من تصرف، وتوسطها كذلك اعتذار لرب عمله، على ما اقترفته يداه في تطاولهما على أموال الشركة، التي اؤتمن عليها حتى بلغ هذا التطاول حداً لا يمكنه إصلاح ما فسد من الثقة بينهما.

وجذب انتباهي أيضا امتداحه طريقة عمل آلة عدّ الأوراق المالية، التي تحسب بدقة فائقة الأموال من الأعلى إلى الأسفل في لمح البصر من دون أخطاء، ووصفها بأسلوب بلاغي بأنها أحلى خدعة سحرية نقدية رآها في حياته قبل افتضاح أمره.

وأنهى خطابه الأخير الشيق بنصيحة، وجهها إلى كل التجار وأصحاب محال الصرافة، بضرورة جرد العهد المالية الموجودة لدى موظفيهم، حتى لا ينتهي مصير ضعيف النفس فيهم إلى مصيره، كان لديَّ فضول قاتل لمعرفة سبب قيام صاحبنا بإعداد الفطور الدسم، وتناوله حبوب ضغط الدم قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة، بعض التفاصيل لابدَّ أن تكون ناقصة.

مدير إدارة التدريب في الإدارة العامة للتحريات والمباحث الجنائية