آراء

الحكم عنوان الحقيقة

المحامية شوق الكثيري

المعروف أن الحكم البات يُعد عنواناً للحقيقة، فلا يجوز البحث عن حقيقة أخرى غير التي عبر عنها هذا الحكم، وتالياً لا يجوز إعادة مناقشته لبيان وجه العيب فيه، فمن قضي ببراءته بحكم نهائي وبات لا تجوز إعادة محاكمته حتى لو ثبت على وجه قاطع أنه مرتكب الجريمة التي برأته منها المحكمة. ومن أدين بحكم انقضت به الدعوى في مواجهته لا تجوز إعادة محاكمته مرة أخرى حتى لو ظهرت أدلة أخرى تثبت بوجه لا يقبل الشك أنه جدير بعقوبة أشد، وذلك بغرض مصداقية الأحكام واستقرار المراكز القانونية، وهي فكرة ضرورية لكل مجتمع منظم، إذ من العسير أن يقبل المجتمع وجود مراكز قانونية قلقة على نحو دائم، لأنها محل نزاع لا ينتهي أبداً، فالنزاع مهما اتسع وتشعبت وجهات النظر فيه يجب أن يقف عند حد هو صدور حكم حائز قوة الشيء المحكوم فيه.

رجح المشرع اعتبار العدالة على اعتبار الاستقرار القانوني، لأن أشد ما يؤذي العدالة أن يبقى الحكم بإدانة متهم بريء قائماً على الرغم من ثبوت خطئه.

ولعل الاستثناء الوحيد الذي سمح به المشرع هو طلب إعادة النظر في الحكم الصادر بإدانة المتهم في جناية أو جنحة، للوصول إلى حكم ببراءته، بشروط وشكليات معينة، أوردها المشرع على سبيل الحصر في المادة 257 إجراءات جزائية، والدافع الذي حدا بالمشرع إلى وضع هذا الاستثناء هو «اعتبار العدالة»، وهنا رجح المشرع اعتبار العدالة على اعتبار الاستقرار القانوني، لأن أشد ما يؤذي العدالة أن يبقى الحكم بإدانة متهم بريء قائماً على الرغم من ثبوت خطئه.

وليس معنى أن «الحكم عنوان الحقيقة» أنه يطابق الحقيقة تماماً، لأن القاضي يحكم طبقاً للوقائع المطروحة أمامه وربما يستطيع أحد الخصوم تنظيم كذبه ويخدع سلطة المحكمة، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار». صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا أعلن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في وضوح أن حكمه بين المتخاصمين كما يصيب فإنه قد يخطئ.

وهكذا فإن القاضي يحكم بناء على الأوراق المطروحة أمامه، وعليه فقط أن يجتهد ويدقق ويحقق قدر ما يستطيع للوصول إلى الحقيقة.

ويعزز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: «إِذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر».

وفي النهاية فإنه لا مراء في أن الحكم القضائي إن لم يكن عنوان للحقيقة فإنه على الأقل كاشف لها، حسب الوقائع المطروحة على المحكمة، ولا ينبغي أن يترك الأمر لأصحاب الأهواء ليشككوا في الأحكام القضائية بغرض النيل من مصداقية الأحكام، وبغرض النيل من استقرار المراكز القانونية، والنيل من الثقة في نزاهة القضاء وعدالة أحكامه.

 

 

 

تويتر