نفي النسب بين العلم والشرع (2)

وصلاً لما بدأناه من حديث حول القضية الشائكة التي تثيرها مسألة نفي النسب وإثباته، وأوضحنا في مقالنا السابق أن قانون الأحوال الشخصية نص على أن النسب يثبت بالفراش (والمقصود بالفراش عقد الزواج الشرعي)، ويثبت كذلك بإقرار الأب أو بالبينة الشرعية، وهي كل ما يبين الحق ويظهره، ويثبت أيضاً بالطرق العلمية، شريطة ثبوت الفراش، على أن يمضي على عقد الزواج الصحيح أقل مدة للحمل وهي 180 يوماً، وألا يثبت عدم إمكان التلاقي بين الزوجين. وشدد القانون على أنه متى ثبت النسب شرعاً فلا تُسمع الدعوى بنفيه بعد ذلك.

- المشرّع لم يترك للزوج أن يلاعن زوجته لنفي النسب كما شاء ومتى شاء.

واستصحب القانون الطرق العلمية الحديثة، كالفحوص الجينية والبصمات الوراثية التي تقطع الشك باليقين، بوجود علاقة دم حتمية بين المولود والأب أو تنفيها، وحسناً فعل المشرّع حين ربط اللجوء إلى الطرق العلمية بوجود عقد زواج شرعي ابتداءً، وذلك بعد أن أثبت الواقع العملي تحايل بعض ضعاف النفوس وتلاعبهم لإثبات النسب، اعتماداً على الطرق العلمية وحدها، دون وجود رابط شرعي.

بقي أن نشير إلى أن المشرّع لم يترك للزوج أن يلاعن زوجته لنفي النسب كما شاء ومتى شاء، ليجعله سلاحاً يهدد به بعض الأزواج زوجاتهم متى نشأ بينهما خلاف، بل قيده بوجوب أن يكون ذلك خلال سبعة أيام من تاريخ العلم بالولادة، وألا يكون الزوج قد اعترف بأبوته للمولود صراحة أو ضمناً، وقد أجاز القانون للمحكمة الاستعانة بالطرق العلمية الحديثة لنفي النسب، غير أنه قيد ذلك بألا يكون النسب قد ثبت قبل ذلك بأي طريقة من طرق الإثبات المعتد بها شرعاً وقانوناً.

وتواترت أحكام محكمة التمييز مرسيةً مبدأً قانونياً، مفاده أن النسب يحتاط في إثباته بما لا يحتاط في غيره أحياءً للولد، ولهذا أجازوا بناءه على الاحتمالات التي يمكن تصورها بأي وجه، حملاً لحال المرأة على الصلاح، وإحلال حسن الظن بها محل سوء الظن، صيانةً لشرفها وإحياءً للولد ورعايةً لمصلحته، ويمكن للأب أن يقر بنسب الولد إليه نصاً أو دلالة، ومتى أقر، فلا مجال لنفي النسب، لأن النفي يكون إنكاراً بعد إقرار، فلا تسمع المحكمة عندها أي دعوى تقام لنفي النسب.

واعتمد القانون الإقرار الصادر من الرجل بالبنوة، ولو صدر ذلك الإقرار في مرض الموت ما لم يكن المقر له من الزنا، مشترطاً لصحة الإقرار بالبنوة أن يكون المقر له مجهول النسب، وأن يكون المقر بالغاً عاقلاً مختاراً، وأن يكون فارق السن بين المقر والمقر له يحتمل صدق الإقرار، وأخيراً أن يصدق المقر له البالغ العاقل في إقراره، فإن لم تتوافر في المقر له صفة البلوغ والعقل، فإن نسبه يثبت من غير تصديقه، لكون ذلك يصب في مصلحته، حيث أن الشريعة تحمل كلام المقر البالغ العاقل على الصدق والصلاح، خصوصاً إن تعلق الأمر بمسألة غاية في الأهمية والحساسية كالنسب.

- للإطلاع نفي النسب بين العلم والشرع(1)، يرجى الضغط على هذا الرابط.

 

 

الأكثر مشاركة