أقول لكم
مرّت مشاهد «عكا» من دون أن ننتبه لها، كنا منشغلون بالأزمة المالية العالمية، وزعامات فلسطين يشغلهم شيء آخر، يبحثون عن مصالحة تسمح لهذا بأن يأخذ بعض ما عند الآخر، وتعطي ذاك ما استولى عليه غيره، فالقوم ألهتهم الكراسي ولم يسمعوا أنين النساء ونحيب الفتيات وصراخ الأطفال، حتى الحرائق في بقايا «عكا» لم تلفت الأنظار، بل تساءل بعض منا، وقال ماذا يفعل الفلسطينيون في «عكا»؟
تذكرت أيام زمان، ليس الزمان البعيد، بل قبل عشر أو خمس عشرة من السنين، يوم كنا نتنادى من الشرق والغرب، نستفز كل مشاعرنا، كنا كتّاباً قبل القيادات، وحكومات قبل الشعوب، ندين ونشجب ونستنكر، ونطلب تدخّل هذا وذاك من البلدان المالكة للقرار والقوة، ونطلب من مجلس الأمن الإدانة، ونبرز الصورة للعالم حتى يرى ويسمع ويفهم، ولم تنفع الذكرى، لا سلطة شرعية تحركت ولا حكومة مقالة ومنتهية الصلاحية ساندت، وتحمل الطفل الصغير وزر التمسّك ببقايا التراب الذي كان ذات يوم فلسطينياً ممزوجاً بالدماء، ولم نسمع منظمات حقوق الإنسان تتحدث، فهذه ليست قضية فرد في دولة تكرهها الحضارة الخادعة، وليست قضية امرأة يقال إنها لا تحصل على حقوقها، هذه صورة غير مزيفة، فيها إسرائيل التي تصمت في مواجهتها كل نظريات التحضر، وفيها من منح شهادة إبادة منذ 60 عاماً، فيها طفل وامرأة وكهل ينتمون إلى فلسطين، فمن منا مازال لديه رمق للحديث عن فلسطين، ومن منا يملك وقتاً يخصصه لفلسطين، ومن منا لم يقنعه أصحاب الفكر الجديد الرافض لكل تبعات اسم فلسطين؟.
هذه «عكا» التي كان فيها ذات يوم شخص اسمه «أحمد الجزار»، وكان حاكمها، وكانت وحيدة أمام جيوش «نابليون»، وكانت هي «عكا» التي تكسّرت على أسوارها أحلام «نابليون»، ومنها عاد مهزوماً إلى مصر، ومن مصر فرّ في ظلال الليل عائداً إلى فرنسا، فقد عرف أن أسواراً تلو أسوار تكسر أحلام الغزاة، وهي «عكا» نفسها اليوم التي تقاوم تهجير من بقي فيها من العرب دون أسوار ودون «جزار» وحتى دون نصير ينادي بالعون من بعيد.