الكتابة حين تنتخب مكانها

تبدو الكتابة وهي تحطّ في الرأس أحياناً وتستدعي نطقها وتحبيرها لتنتقل إلى المساحة القرائية، وكأنها تبحث فيزيائياً عن مكانها النادر. ذلك المكان الذي يجعل الكاتب يبحث فيها عن قلمه وأوراقه كي يخط جملته الأولى.

هكذا تبدو الكتابة كحصان جامح يستعصي على اللجم والتوقف إلا في ذلك المكان الذي يحس فيه الكاتب والمبدع بأن عليه في هذا المكان فقط أن يبدأ بكتابة روايته أو قصته أو قصيدته أو حتى بحثه.

نعم ثمة علاقة فيزيائية وربما كيميائية أيضاً معقدة بين الكتابة ومكانها، بحيث تصير هذه العلاقة ذات منطقة جاذبة وممغنطة للكاتب. فالمكان الذي يحث على الكتابة، ربما يكون هو المكان النسري الوحيد الذي يستطيع الكاتب أن يحلق فيه بأقصى ما يستطيع، علواً وانخفاضاً. وهو المكان الوحيد القادر على أن يعتق روح الكاتب من عقالها اليومي، ومن تفاهة ما يُحيط بها.

والغريب أن أمكنة الكتابة في العادة لا تكون بمستوى الكتابة ذاتها. بمعنى أن المناخات التي يتحرك فيها المُبدع داخل نصه الكتابي تكون في العادة متواضعة جداً وليست بمستوى تحليقاته في الأمكنة على تنوعها واختلافها.

وفي كتاب حمل عنوان «كبار كتاب العالم كيف يكتبون» نلحظ أن أحد الكُتاب الاميركيين حينما كان يوقع عقد كتابة روايته مع ناشره، يذهب فوراً إلى إجراء فحص طبي كامل، ومن ثم يذهب إلى ذاك البيت الذي اعتاد أن يكتب فيه رواياته، ويأخذ احتياجاته الطعامية التي تكفيه لمدة 23 يوماً، ويغلق كل أجهزة الاتصال مع العالم الخارجي من هاتف أو تلفاز، ويبدأ بالعمل حتى ينهي كتابته للرواية.

وفي إحدى الحوارات التي كنت قد أجريتها مع الروائي السوري حنا مينا، رفض أن يبدأ الحوار معي إلا بعد أن يقوم بالتنظيف الكامل للمكان الذي كنا فيه، مع العلم أن المكان كان غرفة في أحد الفنادق الفخمة جداً. إلا أن مينا أصر على تنظيف المكان قائلاً لي: «لا أستطيع التحدث عن نفسي إلا في مكان نظيف». وحينما سألته: «وهل ينطبق هذا على الكتابة؟». قال لي: «بالتأكيد».

ولعل صاحب «نوبل» نجيب محفوظ الذي لم يغادر مصر إلا في مرات نادرة. هو من المواظبين فعلاً على أمكنتهم الكتابية، التي لم تكن في مكتبة عامة أو في المقاهي التي أحبها، بل في بيته، وفي مكان محدد في ذلك البيت.

أما الشاعر الفلسطيني الراحل محمد القيسي الذي أُطلق عليه مسمى «المغني الجوال»، فقد كان ينطق قصيدته ويترنم بها وهو يسير في الشارع، ليذهب بعد ذلك إلى أقرب مكان كي يكتبها.

وإذا كان بعض كُتاب العالم قد اختاروا المقاهي والأرصفة والأمكنة المهمّشة كي يكتبوا أعمالهم فيها. فإن المُدهش فعلاً هو أن يختار عبدالرحمن بن خلدون كي يكتب مقدمته المشهورة في علم الاجتماع، إحدى المغارات في بلدة «فرندة» بولاية «ثيارت» بالجزائر.

والأغرب من كل هذا الكاتب الإسباني سيرفانتيس الذي تفتقت روايته «دو كيخوتة» خلال اعتقاله في إحدى المغارات التي تقع في هضبة «بلكور» الجزائرية أيضاً.

إنها الكتابة التي يصعب أن نحدد سلفاً المكان الذي يليق بحدوثها.

إنها الكتابة التي ستظل عصية، في ولادتها وحدوثها، على الفهم.

الأكثر مشاركة