قصدية قتل الأرشيف

خليل قنديل

أعلنت المكتبة البريطانية، أخيراً، بمناسبة مرور 10 سنوات على رحيل الشاعر البريطاني تيد هيوز، عن شراء المكتبة أرشيفه الكامل، بما قيمته نصف مليون جنيه استرليني، بصفته جزءاً من التراث الوطني.

وما يعنينا من هذا السياق الخبري هو هذا الاهتمام الحقيقي من الغرب بأرشيف المبدع، والعمل على عدم إهمال أي جزء من مسودّاته الورقية، مهما كان مستواها. والعمل على إدخال هذا الأرشيف في ذاكرته «المتحفية».

وما من شاعر أو روائي في الغرب ترك خلفه بعض المسودات الورقية إلا ويقدم أحد الورثة على استغلال هذا الأرشيف، والسعي لعقد مزادات البيع له بكل السبل، وفي نهاية الأمر تحدث الصفقة ويتم البيع.

والأمر أحياناً يتعدى المسودات، لتتحول الأدوات، التي كان يستعملها الفنان، الى مزادات جاذبة تُدفع فيها المبالغ الخيالية من أجل الحصول عليها. وقد دخلت الخرقة القماشية التي كان الفنان العالمي بيكاسو يستعملها خلال رسمه بعض اللوحات، ليزيل بقايا الألوان عن أصابعه، إلى مزاد بيعت فيه كتحفة وبسعر خيالي. واذا كانت الملابس التي يخلّفها الفنان بعد موته يمكن أن تكون جزءاً من أرشيفه الجسدي الذي يحمل رائحة عرقه. فإن أحد المزادات عرض ذات مرة الملابس الداخلية لنجمة هوليود الراحلة مارلين مونرو، وحصدت هذه الملابس التي تؤرشف رائحة مونرو بمبلغ خيالي أيضاً. إن هذا الولع الاقتنائي، الذي تعيشه الحضارة الغربية بكل مؤسساتها، يدلل على عافية حضارية، أساسها الاهتمام بما يُمكن أن يخلفه المبدع الحقيقي لحظة موته من مقتنيات خاصة، ومن مسودات كان قد كتبها، وتحولت الى أعمال ابداعية عظيمة، سيكون لها الأثر اللاحق في البشرية. عربياً المسألة تبدو قاسية وجارحة. فما أن يُكفّن المبدع، ويوضع في لحده، حتى يتحول إرثه الورقي ومسوداته جميعها، وبما فيها مكتبته أيضاً الى عبء ثقيل على البيت والعائلة، يحار الجميع في التعامل معها.

وبعيداً عن اقتياد الأمثلة السطحية في إيراد الأسماء العادية لمبدعين عرب، فإنني أستذكر صاحب «نوبل» الروائي المصري نجيب محفوظ، وأسأل عن أي جهة ثقافية عربية او مصرية حاولت أن تبوّب أرشيفه أو تحصل عليه، ليصير لاحقاً مرجعاً متحفياً للأجيال المقبلة؟ وأسأل أيضاً عن أرشيف السياب ومي زيادة والجواهري ونزار قباني وتوفيق الحكيم والعقاد وغسان كنفاني، والعديد من المبدعين العرب الذين ذَوَت مسوداتهم واهترأت، من دون أن تسعى أي مؤسسة ثقافية عربية للحصول عليها وأرشفتها. ومن الأمثلة الحديثة الطازجة مسودات قصائد الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، التي قام أخيراً بعض أصدقائه الخلّص، بإرسالها الى دار نجيب الريس كي تصدر في ديوان شعري جديد، يحمل توقيع درويش. والمُدهش أن الشاعر الراحل درويش، الذي كان يمزق مسوداته ولا يترك أي أثر لكتابته الشعرية، قد ترك سهواً مسودة ديوانه الذي سيصدر قريباً. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا الى أين يمكن أن تنتهي مسودات أوراق ديوان درويش الجديد؟

بالطبع ما من إجابة، لأننا عربياً نتعامل مع الأثر الحبري الإبداعي المتمثّل في الأرشيف بقصدية الاستهتار والإهمال الحضاري للمبدع الذي هو أساساً أحد نباتاتنا الشيطانية الموجعة في نموها وظلالها.

khaleilq@yahoo.com

تويتر