بلاغة النص الأدبي
لم نكن اعتباطية إضافة (الأدبي) إلى (النص). ذلك أن النصوص من جهة، ليست كلها أدبية، ومن جهة أخرى، فإن كل فعل هو نص، سواء كان مكتوباً أو مروياً أو مرئياً أو مبذولاً. وعليه؛ كان لابد من تمييز النص الأدبي، عندما نتحدث في البلاغة التي يمكن في خلالها مقاربة النص الأدبي، والوصول إلى تأويل من تأويلاته.
سبب هذا الكلام، هو ما أصبح يكتب الآن من نصوص أدبية محددة كالرواية والقصة والشعر. وهي كتابات قامت بإزاحات عدة، أهمها بلاغة اللغة الأدبية، وقوة الصورة الفنية، والتعويض عن ذلك كله بتقنيات جديدة في الكتابة. ربما نعثر في التاريخ المعاصر على كتابات كهذه، كالرواية الفرنسية الجديدة مثلاً التي جعلت من السرد(سيناريو) سينمائياً جافاً، لأنه معد للقراءة لا للمشاهدة. أي أن هنالك استخداماً لتقنية نصية محددة تخص نوعاً فنياً محدداً، من دون إخضاع هذه التقنية إلى بلاغة النص الأدبي، القائمة على استخدام اللغة وتوظيفها بكل ما يمتلك الكاتب من مقدرة على استنباط الدوال والعلامات والرموز والإشارات. وربما لهذا انتهت الرواية الفرنسية سريعاً، ومن دون أن تترك أثراً في الأدب العالمي.
يحدث الآن شيء مشابه في الكتابة العربية. لا أعني الرواية الفرنسية، بل أعني استخدام تقنيات جديدة ـ وهو أمر مطلوب في سياق الكتابة ـ ولكنه هنا يستخدم كبديل عن بلاغة اللغة الأدبية، وقدرتها الفائقة على بث الرموز والدلالات الضرورية في النص الأدبي. كما أن بلاغة اللغة الأدبية أيضا، لا تعني تلك الزخارف اللغوية. إنها تلك المقدرة على تطويع اللغة، ووضعها في سياق ملائم للنص المراد إيصاله إلى المتلقي، كشفرة بين طرفين. الأمر الذي يجعل النص مختلفاً عند كل متلق، وفقاً لثقافته وخبراته القرائية. وفي الأحوال كلها، فإن على هذه اللغة الأدبية أن تعرف كيف تقول، وماذا تقول، ومتى، وبأي عدد من الكلمات. وعليها أيضا أن تمتلك المقدرة على إيهام القارئ. فاللغة الأدبية ليست لغة إخبارية، ولكنها أيضاً ليست لغة تهويمية تشبه القفز في الهواء. صار لزاماً علينا الآن أن نكون حذرين في تعاملنا مع اللغة، لأن النص الأدبي لغة أولاً وقبل كل شيء. وحتى تلك الصور الفنية في النص، لن تتحقق إلا عبر استخدام حيوي للغة، تماماً كاللجوء إلى التقنيات الغريبة التي لن تكتسب أي أهمية على الإطلاق، ما لم تكن بلاغة اللغة هي معيار تكوينها وتشكيلها.
ربما يكون من الضروري أن نشير هنا إلى مسألة التداخل بين الأجناس الأدبية، حيث أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى خلل بنيوي في النص، فأصبحت القصة القصيرة مقطعا من قصيدة نثر، وتحولت قصيدة النثر إلى قصة قصيرة جدا أو خاطرة. ولعل السرد العربي الحديث خير دليل على ما ذهبنا إليه! حيث تكاد الحكاية تختفي، وهي التي تشكل العمود الفقري في السرد. وباختفاء الحكاية تختفي الشخوص، ويضمحل فعل السرد، ما يؤدي إلى استخدام لغة غير سردية، قائمة على جماليات خارجية في البناء اللغوي. وهنا جنح الكثيرون إلى لغة التصوف، وما تنطوي عليه من مفارقات وضديات تشكل تعويضاً عن غياب العناصر الأساسية في السرد.