شبهة الرواية
في زمن تحولت فيه الرواية إلى قناة إبداعية نادرة وطازجة، وكأنها تخلقت للتو، وقادرة على مغنطة الذهن القرائي البشري بهذه القوة الجاذبة. في وقت تحولت فيه الرواية إلى غواية قادرة على اقتياد الكتابة الابداعية من قصة وشعر مخفورة نحو مناخاتها. في زمن صارت كل المهرجانات تقام من أجل تبجيل المُنتج الروائي في المهرجانات وفي معارض الكتاب عربياً وعالمياً إلى مثل هذا الحد. وفي زمن صارت تتورم الجوائز إلى هذه الدرجة لمصلحة الرواية في كل عواصم العالم. في زمن مثل هذا يرفع من مستوى الرواية الى مثل هذا الحد. علينا أن نبدأ بتحسس رؤوسنا أولاً، ومن ثم تحسس منطقة القلب خوفاً على الرواية أولا، وعلى مؤلفها ثانياً من مثل هذا الإقبال الذي بات يحتمل الشبهة في كل تمظهراته الجديدة هذه. فالرواية التي تسوق حاليا ليست منبثقة من مخيالها الاساسي الذي دشنه العديد من الرواد ابتداء من مؤسسها سيرفانتيس، ومروراً ببلزاك وهوجو وتولستوي وشلوخوف ومكسيم غوركي ودوستوفيسكي وكازنتزاكس، وانتهاء بشتاينبك وفوكنر وماركيز ومحفوظ وكونديرا.
إنها ليست الرواية التي كان مبدعها يذهب وحيداً في مخياله كي ينحت سرده الخارق والأخّاذ ليعود بمنتجه كي يحبره، ليمنحه تلك البراءة التي تشبه براءة الاختراع. وهي ليست الرواية القادرة على أن تحفر عميقاً أسماء شخوصها في الوجدان الجمعي القرائي لما يزيد على القرن، إلى الدرجة التي يمكن لشخصية مثل شخصية «زوربا»، على سبيل المثال لا الحصر، أن تكون علامة حافرة في وجدان الناس الى درجة الرقص «الزوربوي».
إن الرواية التي يسوَّق لها الآن في أكثر من عاصمة عربية وعالمية، هي رواية تأسست على نوايا مسبقة عند مؤسسات ودور نشر وجهات ناشطة في الترجمة. نوايا تتسق مع التوجهات التي تسعى إلى عولمة المجتمعات واختصار توجهاتها في سعي إلى تكسير وتحطيم الهوية المحلية، وتبديد المعطى الإرثي ومهاجمة القناعات الاجتماعية والدينية الراسخة. بمعنى أن أصحاب هذه النوايا المسبقة استطاعوا تحييد الدراسات الفكرية والفلسفية، وإبعادها عن هذا الدور الذي ظل في الاساس دورها عبر التاريخ الانساني بمجمله، واختاروا الرواية كجهة أكثر حفراً وتأثيراً في الوجدان الجمعي القرائي. باعتبارها أسرع فاعلية في إيصال الأفكار الانقلابية القادرة على تغيير القناعات البشرية الراسخة.
إن رواية مثل رواية «شيفرة دافنشي»، للأمريكي دان براون مثلاً، عملت على قلب مفاهيم راسخة في المسيحية، وكان يمكن لمثل هذه الرواية أن ينزع منها شخوصها وتتحول إلى بحث معرفي. لكن ما كان يمكن لمثل هذا العمل أن يأخذ ضجته التسويقية والإعلامية لولا أنه كتب كرواية.
وراهناً، فوجئ الوسط الأدبي الفرنسي بمنح جائزة «غونكور» الفرنسية للكاتب الأفغاني ــ الفرنسي عتيق رحيمي، عن روايته «صخرة الصبر» التي تعبر عن القهر الاجتماعي الذي خلفته حركة طالبان والحرب عموماً في المجتمع الافغاني. وكان يمكن لمثل هذه الرواية أن تكتب كبحث معرفي حافر، لكن من قال إن مثل هذا البحث سيحصد جائزة الـ «الغونكور»، إنها الظواهر الاحتفائية ذاتها التي صارت تكرس من أجل الرواية وتسويقها إلى درجة السلعنة. تلك السلعنة التي تجعلنا نعتقد أن الرواية صارت هي الأخرى تدخل منطقة الشبهة، وفقدان تلك البراءة التي كانت وتظل تعظم المُنتج الروائي وتؤبده .