شتاء
لكل فصل سيرة ذاتية مرتبطة بحياة الناس وأمزجتهم وطبائعهم، فهناك من يحب الشتاء أكثر من غيره من فصول السنة، وهناك آخرون يعشقون الخريف ومشهد تساقط أوراق الشجر، وغيرهم يرون في الربيع زهرة كونية، بينما يعد غيرهم الصيف فضاء للاستمتاع بالنزهات المرحة. وإذا كانت طبيعة الطقس أساساً في تغليب جمالية فصل على آخر، فإن نفوس البشر عامل آخر وأساس في ذلك. فقد يكون الصيف في بلد مثار انزعاج، في حين تنتظره بلاد أخرى على أحرّ من الشمس. هناك بلاد تشتاق إلى التشميس.
وإذا كان هناك اشخاص يستقبلون الشتاء بتذمر شديد، يستقبله آخرون بفرح غير محدود، وتتراقص أرواحهم مع كل قطرة مطر. فالشتاء بالنسبة لهم سيرة من الدفء لا البرد، وهو فصل للعودة إلى عزلة لذيذة، عزلة خفيفة مثل ريشة نورس، يتأمل فيها الإنسان حياته، قطرة قطرة.
الشتاء الذي يشبه غرفة مسقوفة بالغيم، ومسورة بخيوط من ماء المطر، يفتح بوابة التأمل على وسعها، وتصبح مكاشفة الذات أكثر وضوحاً في هذا الفصل الذي يبدو عليه الغموض. الشتاء فصل للكتابة عند كثير من المبدعين، كما لو أنه يمحو عناصر التشويش الخارجية، وتصبح صورة الروح مجلوّة أكثر من أي وقت آخر. أصوات الريح والرعد والبرق والمطر هي السيدة الأولى في هذا الفصل«الأنثوي» بامتياز كما يراه علماء في الظاهراتية. إذ إنه فصل داخلي، كما لو أن الإنسان يعود إلى تكوره الأول مثل جنين يتأمل الكون ويصغي إلى موسيقاه الخفية.
الشتاء بوابة تفضي إلى ولادة زهرة كونية. والكتابة بنت الشتاء، والعزلة أيضاً. وهي بنت الصمت البليغ الذي يروي ما عجز عنه الكلام.
في الشتاء نتذكر أنه فصل الذكريات. نتذكر طفولتنا، عائدين إلى ذلك الزمان، وتلك الرائحة التي تفيض من الأرض عند «الشتوة» الأولى. نتذكر الصوف والنار والعتمة وهبوب المعاني اللطيفة ورسائل الغياب.
في الشتاء، نتذكر ونقرأ ونكتب ونتأمل أكثر. ننتظر الشتاء لنخرج ملابسنا الثقيلة عن صمتها في الخزانة، عندما تطل أول غيمة من النافذة.
للشتاء أناقته الخاصة، وألوانه الدافئة وطقوسه الحميمة. في هذا الفصل، تغسل الأمطار كل الأرواح حتى تخضرّ، كما تغسل عتبات الكلام والبيوت، وتغسل الأشجار وشواهد القبور، وأراجيح الأطفال، وحصى الوديان، ورؤوس الجبال التي تعتمر الغيوم.
تلك الأمطار تغسل مرايانا وتنثر موسيقاها في قمصاننا. في هذا الفصل، نعيد الاعتبار إلى موقد الحطب والمدفأة ولحاف الصوف والكستناء وزيارة البحر بين غيمتين.
في الشتاء نعيد الاعتبار إلى المعاطف والعواطف وبلاغة الصمت. وفي الشتاء أيضاً قد نبكي.
ali.alameri@emaratalyoum.com