اختل العدل، فاختل العقل
كأنما العالم يستعيد جاهليته الأولى، وذلك في مشهد يبدو التناقض عنوانه، والتضارب بين ألوانه، والتصادم بين صوره. ففي الوقت الذي تصل فيه البشرية إلى منابر عالية من التقدم والمدنية والتعليم، ينزلق السلوك البشري إلى قيعان سحيقة من الجهل والوحشية والدموية تنسف كل ما تقدم، وتهدم كل ما تحقق.
هجمات مسلحة مجنونة لا تفرق بين بريء ومذنب، ولاتفصل بين كبير وصغير، ولا تضع للتاريخ وزناً، ولا تقيم للموروث أي اعتبار، ولاتحسب للدماء المهدورة مثقال حبة من خردل.. ثم لاتضع لمصير منفذيها أية أهمية، لأن مصير الدنيا كلها من حولهم لم يعد ذا أهمية. وهجمات قرصنة بحرية أعادت عقارب الساعة، ورجعت بحواسيب الزمان إلى أساطير الأولين وقصص السابقين ممن كانت الأرواح البشرية عندهم أرخص من جنيه من حديد.
استفحلت هذه الظواهر في وقت طغى فيه صوت العلم، وعلت فيه نبرة الحديث عن التقدم، وراح العالم يختال بإنجازاته من دون أن يلتفت إلى إخفاقاته. فعندما يختل ميزان العدل يختل ميزان العقل، فيتأرجح مصير العالم والبشرية وكأنه لعبة طرفها الأول في يد إنسان مغرور والطرف الثاني في يد فرد معتوه. الأول تكالب عليه الشعور بالقوة والقدرة والسطوة حتى فقد توازنه، والثاني طغت عليه مشاعر القهر والدونية، فاختلت موازين عقله وتوازنات قلبه.
العالم يزداد تقدماً ومعارف، وفتوحات جعلته يزداد ترفاً واستهتاراً بنفسه وبمن داخله. فجعل التقدم يصادر حقوق العدل، ويحاول تجييره ليكون أداة في يد القوة. ولأن القوة عندما تخلو من العدل تصبح طاغوتاً بلا مواصفات ولا مقاييس فقد استل «الضعفاء» سيوف القوة متسلحين بدعوى انهيار العدل، ليكونوا هم الأقسى من غيرهم على هذا العدل والأكثر اجتراء وجسارة على نسف أركانه. وهم بذلك يضعون اللمسات الأخيرة على اللوحة البشرية التي رسمها الأقوياء قبلهم بما ملكوا من أسباب التقدم والعلوم، والتي تظهر العالم وكأنه طفل رقمي يقضي حاجته على الرصيف.