5 دقائق

عبدالله الشويخ

ما هو سرّ الحياة الأدبية التي تلقيها السماء علينا مع الأمطار؟ أي سحر يختزله ذلك الغمام المسافر بألوان بيادق الشطرنج، وهو يحمل إليها مصائرها التي ما زالت تملى عليها منذ عقد مضى؟

لا يختلف اثنان من متذوقي الأدب العربي على أن أجمل ما كتبته أقلام المبدعين كان تحت المطر؛ فتحت أمطار بيروت ومن ثم لندن، كتب نزار أجمل ما كتب في الوطن والعشق. وتحت أمطار لندن عبث غازي القصيبي و غادة السمان وأحلام مستغانمي كثيراً، تارة تحت مظلات من ورق، وتارة دون ما يسترهم من ريح بلادهم الصفراء! وتحت المطر أيضاً كتب شاعر الغربة الذي يرزح تحت رحمة السرطان والدم المشبع بأمراض الوطن أحمد مطر أبلغ لافتاته. لا أدري هل كان المطر هو الموحي بكل الكآبة والحزن المسيطرين على تلكم الكتابات؟

قطرة مطر ... هي غربة ، فصحراؤنا ترينا إياها مرة أو مرتين في العام من باب العلم بالشيء، أو كأنها تخرج لسانها لنا قائلة هذا ما لدي خذوني كما أنا أو اتركوني ، أنا ملك للعطاش كلما أحبوني زدتهم عطشاً، أوليس على المحب أن يضحي ؟

قطرة مطر.. هي الأمل بالتغيير ، ألم يذكرنا القرآن في غير موضع بأن الماء المنزل من السماء، هو السبب الأول لما سيتبعه من مفرحات من اهتزاز الأرض وانفجار الزرع والثمرات هنا وهناك . قطرة مطر هي حرية مبتورة، فمنذ انعتاقها من خفة الوزن والعقل في مملكتها الأصلية، تسير كما تشتهي بين السماء والأرض لا تجبرها ريح ولايثقلها رفيق، وحيدة وحرة، إلا أنها تعلم أنها سترتطم بالأرض وتدوسها الأقدام، إن لم تكن ضمن آلاف من القطرات تؤمن بقضية واحدة وتسير معاً، فتكون سيلاً يقدر وحده على تدمير مدن بأكملها.

قطرة مطر .. جزء من كل، والماء ناقل جيد للحرارة والكهرباء والأفكار بين أهل السماء وأهل الأرض، لذا فهي لا تؤثر بالضرورة إلا في المبدعين أو المقهورين او الغرباء، قطرة مطر، هي ليست من أجلي أو أجلك، بل هي للبهائم !

أما عن أدبائنا المقيمين أصحاب الياقات الزرقاء والمؤشرات الخضراء في سوق الأسهم فحالهم كذكرى شاعر الكويت :

نضبت جرار الماء والغدران مثل يد البخيل / محلت فأمست كالقبور / مخسوفة سوداء تملؤها الصخور / والريح أغرقت السفينة والسماء / حقدت علينا يا أمينة / صرخات طفلك في الظلام.. أتسمعينه ؟ / نهداك ملؤهما الحليب وأنت ظمأى ترضعينه / في بيتك الطيني قابعة حزينة / تتسائلين عن السفينة ...

كنت بحاجة إلى بضع قطرات فقط تكفي لملء فنجان قهوة، لكي أتمكن من صنع ابتسامة أستقبل بها المراجعين، ثم قررت التنازل لا أريد المطر تكفيني أجواؤه. السماء الملبّدة والمنذرة بالأجواء المكفهرة، سيكون لها عمل فناجين القهوة وأجواء الحسين لدى كتاب السبعينات، رأيتها جالسة بعباءتها السوداء المشمّرة وبرقعها الذي يشي بجيلها وأصلها ، سألتها عمّا تريد وطلبت إليها الانتظار، ولما كانت قد شارفت على التسعين، أخذت أتجاذب معها الحديث حول المطر وانقطاعه وعن المنطقة الشرقية والخور ودبا ومسافي واعسمه، وكيف كانت الوديان تفيض ... ومن اللامكان جاءت الأخرى أنثى بتفاصيل عديدة، ولكن قل أنثى وكفى ! دارت الرؤوس جميعها تتبعها من حيث دخلت إلى حيث خرجت، إلا عيني محدثتي التي ابتسمت بحزن وختمت حديثها : «أرأيت يا بني ! فمن أين يأتي المطر ...» !

shwaikh@eim.ae

تويتر