لعنة الزمن الجميل
في الوقت الذي تكون فيه الشعوب ذاهبة الى صناعة حياتها اليومية المعتادة، تكون هناك سماء لاهثة متسارعة تتمدد كقبة مُحكمة كي ترسم ظلالها على الآماد، لا لشيء الا لتوسم الشعوب الذين يعيشون تحت قبتها بميسمها الخاص الذي يميزها كمفصل تاريخي، وكحقب زمنية مختلفة. واذا كان لهذه الفترة الحضارية التي تعيشها الشعوب العربية على كل الصعد، من سماء تظلل سمة ايامنا التي نذهب لصناعتها كل صباح، فإن السماء اللاهثة، التي تسعى لكي تكون قبتنا السماوية الوحيدة، قبة ذات فكاهة موجعة في هشاشتها وخفتها.
فالعربي الذي بات يتعامل مع مضارعه الحياتي بمثل هذا التثاؤب المتخلّف مع مرجعياته الفكرية والحضارية، وحتى مع مكتسبه اليومي من الحضارة القائمة، بات يشكل تهديداً حقيقياً لقدرته على البقاء وقدرته على مقاومة الاندثار لغة وحضارة.
وليس من باب الصدفة على الإطلاق تلك الهجمة الجماعية العربية على مصطلح«الزمن الجميل»، والذهاب بحميمية موجعة باتجاه «الأبيض والأسود» في عروضنا السينمائية وفي عروضنا الغنائية، والذهاب القرائي الموجع نحو الكتب الصفراء باعتبارها المنطقة المعافاة الوحيدة في تاريخنا التليد. والعودة الى مضغ الكثير من الأعراف والتقاليد الاجتماعية وإعادة تخليقها وإنتاجها من جديد، ومنحها عافية البقاء كأنها وُلدت للتو.
ان هذا الاحتماء الذي يمارسه العربي خلف ترس «الزمن الجميل» يدلل على كوارث حقيقية بدأت تعيشها الشعوب العربية. ففي الوقت الذي يذهب فيه الجيل القرائي الى الكتب الصفراء باعتبارها طوق النجاة الأخير، تاركاً خلفه كل هذه الطازجية القائمة في الكتب التي تبيضها الحضارة الإنسانية يومياً، يدلل على تفشي كتابة رديئة، ومعارف بائسة ومدمرة للذوق القرائي العام.
وفي الوقت الذي يذهب فيه الجيل المشاهد للفيلم السينمائي الى تلك الأفلام الرومانسية الغارقة في دموع الأبيض والأسود وآهاته العجيبة، فإن على الجانب الرصيفي الآخر من هذا الذهاب تنمو سينما رديئة، أخذت تعصف بالمنجز السينمائي العربي لتؤسس لسينما صبيانية قزمة تحصد الملايين من الدولارات. سينما تفسد الذوق وتهدم البدايات التي اسس لها الرواد. حتى الرصيد الغنائي العربي الذي اسست له قامات فنية عالية المستوى صار الغطاء الوحيد لانهيارات وتداعيات في مستوى الغناء والموسيقى العربيين. هذا الانهيار الذي اهم ما يميزه الغناء الفراشي ودجل تصوير الفيديو كليب. والغريب ان الرداءة العربية السائدة في الأدب والفن عموماً قد أفقدت زمننا المضارع هذا هيبته ودسمه، واستطاعت أن تتحول الى سد فولاذي يقدر على ان يحجب عنّا تلك المساحة التي تتركها الحضارة عادة للمبدع المدهش المقبل. تلك المساحة التي يتخلق فيها عادة الانسان المنذور للشهرة. نعم ان الرداءة العربية السائدة حالياً قد قضمت بأسنانها الناهبة تلك المساحة التي تترك في العادة للمبدع الذي تعد نتاجاته بالنقلة الحضارية في هذا المجال الفني والإبداعي او ذاك. وبالمقابل فإن الرداءة التي تظل تدفعنا للذهاب الى منطقة التحسر على الزمن الجميل، وتأخذ المساحة من مبدعها الحقيقي؛ هي ذاتها تسعى الى توريم المساحات اللاحبة التي تمنحها لمغنية فاشلة في كل شيء الا في الغنج والنجاح في اجراء عمليات التجميل للأنف والفم وباقي الأعضاء.
وإلا ما معنى كل هذا الغياب للقامات في الكتابة والفن عموماً وتسيد الرداءة في كل شيء؟ما معنى هذا النحيب الجماعي على الزمن الجميل؟