اغتراب اللغة

علي العامري

كثير من الأدباء واللغويين يصفون اللغة بأنها كائن حي، وهي كذلك وفق درجة نموّها وانتشارها، ودخولها فضاءات جديدة ومجالات الحياة ومواكبتها. وغالباً توصف اللغة بالقوة أو الضعف وهو مجازي، إذ لا تفرد اللغة «عضلاتها» على غيرها من اللغات، لكن أي لغة هي تعبير عن حال أهلها، فإذا وصفت لغة ما بالقوية فهذا مؤشر إلى قوة أصحابها، من النواحي الاقتصادية والثقافية والسياسية والحضارية.

وفي التاريخ، هناك لغات دخلت «المقبرة» وهجعت، بعدما عانت من «مرض». وهذا يدعو إلى التساؤل عن حال اللغة العربية التي يشير متشائمون إلى أنها في دربها إلى «الانقراض»، في حين يقول متفائلون إنها «محفوظة» وإنها تواكب الحياة ومتغيّراتها، في حين يبيّن آخرون أن اللغة العربية تعاني من «مرض»، وهي «دائخة» في الشوارع والمدارس والجامعات والبيوت، وفي الإنترنت، وفي كتيّبات المنتجات الصناعية، وفي لافتات المحال، وفي فواتير البضائع، وعلى واجهات المحال، وفي الاجتماعات الدولية وغيرها. نعم، لغتنا «تترنّح»، ليس لعيب فيها أو لعدم قدرتها، ولكنها كاشف لا يكذب عن أحوال الأمة العربية، إذ إن سوء هذه الأحوال ينقل «العدوى» إلى اللغة، ويصيبها بالكسوف الجزئي.

لغتنا مريضة، بسبب فيروس الحال العربي، على صعد الثقافة والسياسة والاقتصاد. وما ضعفها إلا صورة من ضعفنا نحن لا غيرنا.

لغتنا تعاني، حتى إنها كادت تكون «غريبة» في بلادها، على الرغم من أنها أحد أهم مكوّنات هويّتنا الغربية. ففي الشارع يلوك كثيرون حروفاً عربية وإنجليزية أو فرنسية، في صيغة هجينة لا تمتّ إلى أي من هذه اللغات بصلة. وفي المدارس تختال الإنجليزية في أحيان كثيرة بين الصفوف وفيها. وفي أماكن العمل يغدو الحديث بلغة غير العربية امتيازاً ليس بعده امتياز، على الرغم من أن المتحدثين بهذه اللغات هم عرب. إذ أصبح التنكّر لاستخدام العربية معيار «كفاءة ورقيّ وتفتح وحضارة»، وفي المقابل أصبح الحديث بالعربية «نقيصة» لدى البعض، أو «عاراً» لدى فئة أخرى.

ولكن ما العمل؟ هل تحتاج لغتنا إلى «خطة إنقاذ» أو إنعاش أو إعادة اعتبار؟ ولماذا علينا أن ننطق بلسان أجنبي حتى يقبلنا «الآخر»، على الرغم من أهمية تعلم اللغات الأخرى، ولكن ليس على حساب أبرز مكوّنات هويّتنا.

هل النطق بلغة أجنبية في الشارع والمدرسة والبيت والجامعة، كفيل بتغيير صورتنا في مرايا الآخرين؟ وفي المقابل، تشترط دول غربية عدة على المقيمين فيها تعلم لغاتها، والتعرف إلى تاريخها ومعرفة عاداتها، حتى يصبح هذا المقيم «مؤهلاً» للتعايش في تلك المجتمعات المختلفة عن مجتمعه الذي غادره للإقامة في ذلك «الشمال». ومن بين هؤلاء «المقيمين» أو «المهاجرين» نسبة كبيرة من العرب. هل يمكن أن نطبّق في البلاد العربية مثل هذا النهج، وأن تشترط الحكومات العربية على المقيمين الأجانب تعلم شيء من لغتنا والتعرف إلى لمحة عن تاريخنا وعاداتنا؟

اعتقد أن بالإمكان تطبيق ذلك، عبر دورات باللغة والتاريخ العربيين تنظم لمن يريد الإقامة «بين ظهرانينا»، علاوة على إعادة الاعتبار إلى لغتنا في المدارس والجامعات ورياض الأطفال والإذاعات ومحطات التلفزيون. نعم، اللغة مؤشر إلى مكانة أهلها بين الأمم، فهل يمكن إنقاذها من «الاغتراب»؟

تويتر