الفيلم ...خلاص الواقع الفيزيائي
قبل أن تسأل كل نظريات الفيلم: من السينمائي؟ تسأل أولاً: ما السينما؟
تأتي أهمية كل فن في أسلوب معالجة شيء ما معالجة فنية الكيف، ولا تأتي أهميته في حضور هذا الشيء في الفن. وقد لخص الألماني هانز ريشتر هذه المقولة التي شغلت بال المنظرين، على الشكل التالي:
«أهمية السينما أنها اخترعت لإعداد نسخة طبق الأصل عن الحياة، لكن يبقى الأهم، التغلب على محاكاة الحياة»! فهل الهدف من المحاكاة عرض الأشياء من دون شكل أو الهدف، من تجنب المحاكاة، عرض الشكل من دون الأشياء، لم يكن من باب الصدفة، إذن، أن يصف الأخوان لوميير السينماتوغرافيا في براءة اختراعهما عام ،1895 بأنها آلة لإعادة إنتاج الحياة الحقيقية.
خلال معظم مراحل تاريخ السينما، حظيت الواقعية باهتمام صانعي الأفلام أكثر من اهتمام النقاد النظريين بها. وكما هو الحال في كل وسائل التعبير الفنية، تكون العلاقة بين الذات والموضوع هي الأمر الحاسم، ففي الفن لا يرصد «موضوع» الواقع إلا عبر رؤية «ذات» معينة، ولا يتم تناول الواقع إلا حسب خصوصية وصفات كل وسيط فني. وتبحث «نظرية الفيلم» عند سيغفريد كراكاور، ويتشكل جوهرها من طبيعة العلاقة بين الفوتوغرافيا والسينماتوغرافيا، كوسيطين يتقاربان كثيراً في قدرة جمالياتهما على إعادة بناء الواقع وتصويره. «ليس أمام الفيلم إلا أن ينزل إلى الواقع ويكون موضوعه الدنيا، التي اخترع التصوير لخدمتها، فالسينما وجدت لتقدم الحياة وتنحو إلى عرض موضوعها كما هو، لكن بعمق أكبر وضرورة أكبر»، أول مكونات السينما الأساس هي فوتوغرافيا، لا تفعل سوى تحنيط زمن الأشياء والناس أما السينماتوغرافيا - وقد أضافت الحركة إلى الفوتوغرافيا - فإنها تجاوزت تحنيط الزمن إلى طباعته وبث الحياة فيه. فـ«مادام التصوير الفوتوغرافي يمكنه أن يخدم الواقع المرئي، فعليه أن يفعل ذلك، ومادامت وريثته السينماتوغرافيا، فعليها أن تفعل ذلك أيضاً، لم توجد السينما لتتجاوز مادة الواقع، بل لتسجل مادة الواقع وتحترمها.. الفيلم مهيأ بشكل فريد لأن يرصد الواقع الطبيعي ويكشفه ومن ثمّ، ينجذب نحوه».
من هنا يلزم البحث عن قصص مكتشفة، وليس عن قصص مختلقة، يلزم البحث عن قصص مكتشفة لا يجوز صنع حبكتها من أحد، إنما على الحبكة أن تصنع من الواقع نفسه. وهنا نصل إلى صميم مساهمة كراكاور الفعلية في نظرية الفيلم: الفيلم يخدم هدفاً، فهو ببساطة لا يوجد لذاته كموضوع جمالي صرف، إنه يوجد في سياق العالم المحيط به. ولأنه ينبع من الواقع، فعليه أيضاً أن يعود إلى الواقع. وبما أننا انفصلنا، حسب كراكاور، عن الواقعية الطبيعية بواسطة التجريد العلمي والجمالي، فإننا بحاجة إلى الخلاص الذي يقدمه لنا الفيلم، بحاجة للرجوع ثانية للاتصال مع العالم الطبيعي. وبمقدور الفيلم أن يمد لنا جسوراً إلى الواقع. كما أن بمقدوره أن «يثبت» و«يفضح زيف» انطباعاتنا عن الواقع. من هنا جاء العنوان الفرعي لنظرية كراكاور: الفيلم كخلاص الواقع الفيزيائي.