حرية مؤقتة.. وانتقائية
لو كان لجورج بوش أن يعود إلى السلطة لأربع سنوات جديدة، فأظن أنه سيطالب الدول في العالمين العربي والإسلامي بالسماح لشعوبها وصحافتها بانتقاد مسؤوليها بعُشر ما حظي به هذا الأسبوع من ذم وقدح واستهزاء، بعد أن قطع آلاف الأميال ليجد نفسه مقذوفاً بحذاء، وموصوفاً بـ«الكلب» في العراق.
لا يحتاج المشهد إلى عميق ذكاء. فما حدث في الأسبوع الماضي ما كان ليكون لو أن بوش سيقيم في البيت الأبيض عاماً إضافياً، فالحسابات كانت ستختلف تماماً، وما كانت الصحافة العربية ستجرؤ على نشر الحدث إلا وفقاً لما يقتضيه الخبر، وبتحفّظ واقتضاب، وإذا كان من تعليق في افتتاحية أو عمود، فإنه لن يخرج عن المبالغة في التنظير بضرورة تكريس آليات جديدة للصراع، عبر الحوار، وليس الأحذية، وما إلى ذلك من خوف عربي يتنكر في زيّ الكياسة والاتزان. وعلى من يريد أن يتمتع بهامش للحرية أن يلجأ إلى «الإنترنت»، ويخترع له اسماً مستعاراً، على أن يحافظ على أصول الحديث عن رئيس أكبر دولة في العالم، ويحفظ ماء وجه دولته، ويمنع عنها الإحراج، أو بالأحرى الغضب الأميركي، وهو أسوأ أنواع الغضب التي عرفها التاريخ البشري.
نجح الرئيس الأميركي في توحيد المسؤولين العرب مع الشعوب في موقف واحد؛ لأنه لم يعد رئيساً عملياً. فالوزير ووكيل الوزارة والجزار والخباز وصاحب المتجر أرسلوا رسائل نصية، تسخر من بوش وتشتمه وتحيي منتظر الزيدي. وفي دولة عربية وقف وزراء مع برلمانيين «احتراماً وإجلالاً» للزيدي، وكان من بينهم وزير داخلية تعرف الصحافة في بلاده حقيقة احترامه لحرية الرأي والتعبير، وأوضح دليل على ذلك أنه يمنع أي تجمّع شعبي، حتى ولو كان اعتصاماً ضد التدخين، أو تعاطي المخدرات.
يستحق بوش الحذاء والوصف، ويستحق كل ما قيل عنه من شماتة وسخرية وشتائم مقذعة؛ لأن هذه لن تؤذيه، بقدر الألم والأذى اللذين سببهما لملايين الأرامل والآباء والأمهات في العراق، ويستحق الشارع العربي هذه الحرية المؤقتة والانتقائية، وهذه الشجاعة التي لا تكلف شيئاً، وليس مطلوباً من أي شجاع عربي شتم بوش أن يدفع ثمناً، فهذا رئيس لبلاد لا تقدّس الزعماء، ويمكن لأي مواطن فيها أن يشتمه أو يقاضيه أو يتجاهله من دون أن يموت في حادث سيارة، أو على الأقل يخسر وظيفته، ومصدر رزقه.
أوسعنا بوش شتماً، في حين أودى هو بملايين العرب والمسلمين. ووجدنا في رئيس على وشك أن يغادر منصبه تمثالاً خشبياً أخذنا فيه طعناً وركلاً، وجربنا فيه كل أنواع الشجاعة والجرأة، وكثير منا لا يجرؤ على النقاش مع شرطي المرور، وبلادنا العربية مشددة بقوانين تحرّم انتقاد المسؤولين و«التطاول» عليهم، كما لو أننا شعوب من الأقزام، لا يحق لها أن ترتفع قليلاً إلى قاماتهم.
سينتهي المشهد بشتائمه وأحذيته بعدما فتح هوامش غير مسبوقة للتعبير في العالم العربي، وسينحسر عن أمة تقاوم التغيير منذ قرون، ولا تنجح سوى في حصد مزيد من الخسارات.