الفردوس المفقود

قيس الزبيدي

صدر كتاب «أورسون ويلز وقصص حياته» في لندن في العام 2003 وترجمه عارف حديفة ونشر في سلسلة الفن السابع (147) في دمشق، المؤسسة العامة للسينما.

لفق أورسون ويلز أساطير عن نفسه وأجاز للآخرين أن يضيفوها إلى مخزونهم، وراح يرويها في الإذاعة و المسرح وفي الأفلام وفي الحياة! وقبل وفاته كان ويلز قد صنع إعلاناً تجارياً لصنف من الخمر الياباني، يقول فيه: «مرحباً أنا اورسون ويلز أخرج أفلاماً وأمثل فيها، إن هدفنا هو الكمال». ويسأل الناقد: أكان ويلز صانع أفلام يهدف، حقاً، إلى الكمال؟، وأدى ويلز أدواراً أكثر من الجميع، لقد تعلم من شكسبير:

كل واحد له ظل.. وأنت تستطيع أن تمنح الجميع ظلالاً

في «المواطن كين» كان هناك أكثر من ويلز أُطلقوا من عقالهم، لكي يحلوا المسألة بالصراع. وكما كانت صحيفة بطله هيرتز تتصادم فيها قصص منشورة في صفحات متباعدة، بنى أحداث فيلمه، دون أن يصنفها، تقليدياً، حسب تعاقبها الزمني، وقتها كان التفكك سمة للحداثة: أكان في فوضى الوعي الفرويدي أو في فيزياء اينشتاين أو في تكعيبية بيكاسو وبراك.

حينما شاهد الناقد رونالد ريتشي، كمراهق، «المواطن كين»، اعتقد إن عارض الفيلم، غلبه النعاس وخلط أشرطة الفيلم بعضها ببعض وأضاف إليها سهواً شريط مجلة الأخبار السينمائية!

يدور الفيلم حول رجل يؤله نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يخلق شيئاً، لذلك يختار أن يمتلك كل شيء. لقد صنع ويلز فيلمه الأول العبقري، وعانى طيلة حياته من إحساس مخيف، بأن أفضل ما قدمه قد أصبح خلفه. وكانت قصته، هي قصة فردوسنا المفقود، الذي لم يكن، في الواقع، موجوداً.

بعد أن أبعد الطفل كين عن منزله قسراً تغور زلاجته في أكوام الثلج، ببطء، يحميها البرد. وحينما ترمى في النهاية في محرقة القمامة، تنصهر كلمة «روزبود» مثل ثلج يذوب. نهاية الأمر: يتساوى الجليد والنار!

لقد بنى ويلز عرشه في هوليوود، وكان البعض يسميه «الملك ويلز» وحتى المخرج العظيم هيوستن وصفه: «من دون تاج كان ويلز مهيباً كالملك». وحينما طرد من عاصمة السينما، أصبح متخصصاً بأدوار لملوك تتخلى عن العرش! ملوك يخلعهم متمردون.

عالجت أفلام ويلز مشكلات عصية وتناقضات لا يمكن حلها: هل مات كين سعيداً أم نادماً، بينما كانت كرة الثلج تسقط من يده؟ هل يستحق فاوست اللعنة؟ هل ينبغي على مارلو أن يقول الحقيقة عن كورتز؟ هل نجح أياغو بعد موت عطيل وديدمونة أم أخفق؟ يسأل سانشو بانزا دون كيشوت عن أسلافه، وهو ينظف جسده الهزيل: ما قيمة مآثرهم بعد أن ماتوا جميعاً؟ يجيبه كيشوت: الأعمال العظيمة تمنح الرجال شيئاً من الخلود!

يقول ويلز: «ما نتمناه، نحن الكذابين المحترفين، هو خدمة الحقيقة، لكن ما أخشاه أن تكون هذه الكلمة الطنانة هي الفن نفسه».

لم يترك لنا اورسون ويلز إلا شظايا، يعيد سردها المؤلف، كقصص حياة، بنظرة فلسفية وثقافية ليست فقط عالية، إنما مليئة بالسحر والمتعة.

 

alzubaidi@surfeu.de

تويتر